Lebanese literature - Thoughts of Lebanese, Fouad Ephrem Boustany (Arabic)
في الأدب اللبناني - مواقف لبنانية - خواطر لبنانية في الأحداث والمحدثين بقلم فؤاد أفرام البستاني - حارث البستاني: "١٠٠ عام من الثقافة ، فؤاد افرام البستاني " منشورات الدائرة ٢٠١٤"
س: يكثر الكلام على الأدب اللبناني، وكأنه يختلف عن الأدب العربي. فما هو رأيك؟ وهل أدبنا اللبناني اقدم من الأدب الجاهلي مثلا ً، وبأية لغة كتب هذا الأدب قبل أن نتخذ اللغة العربية؟
ج: الأدب اللبناني غير الأدب العربي، كما أن الشعب اللبناني غير الشعب العربي. وسنبين الفروق بين الأدبين، أو، كما يقال في المصطلح القديم: الائتلاق والاختلاف. أما أي الأدبين أقدم، فان باستطاعتنا الجزم أن الأدب اللبناني قديم جدا ً ولعله أقدم الآداب المعروفة حتى اليوم؛ اذ ان لنا فيه آثارا ً ترقى في تدوينها الى ما قبل هوميروس بنحو 500 سنة، والى ما قبل الادب العبراني بأكثر من ذلك، فهو بحق أول مظهر للتفكير الانساني المعبر عنه بالأسلوب الفني. وهذا هو معنى الأدب. ونحن نستطيع هذا القول اليوم، وقد باشر العلماء الاختصاصيون دراسة آثار "أوغاريت" التي اكتشفت في الثلاثينات من هذا القرن.
ولم يكن باستطاعتنا، قبل ذلك الكلام على أدب لبناني عريق، او على ادب كنعاني اي فنيقي، لأن مجمل الآثار المكتشفة عن الفينيقيين قبل الثلث الاول من هذا القرن لم تكن تتجاوز رقما ً معدودة من الكتابات المحفورة على القبور، أو على مداخل الهياكل.
وهذه بالطبع لا تكون أدبا ً.
أما الآن وقد أصبح لدينا العدد الضخم من الملاحم، والحكايات، والأساطير، والقصص التي يكثر فيها الحوار مع تدخل الجوقات المنشدة للأناشيد الدينية والتراتيل، مما يقربها من الفن المسرحي، فقد يصح لنا الكلام على أدب كنعاني أو فينيقي، أو لبناني قديم.
س: بأي لغة كتب هذا الأدب؟
ج: لا يخفى أن هذا الأدب، كشعر هوميروس، وكالشعر الجاهلي، تنوقل شفهيا ً مدة طويلة حتى دون بالكتابة. وقد أشرنا الى أن ارباب الاختصاص يكادون يجمعون على أن هذا التدوين كان في القرن الخامس عشر ق.م.
أما اللغة التي عبر بها عن هذا الأدب فهي اللغة الكنعانية المعروفة في العالم حتى اليوم بالفينيقية.
ولا يخفى أن من خصائص الأدب اللبناني، أو من خصائص الادباء اللبنانيين، أنهم عبروا، على تتابع العصور، بلغات عديدة. فكان تعبيرهم الأول باللغة الفينيقية، كما ذكرنا، وظلوا على هذه اللغة حتى اتخذوا اللغة الآرامية أو السريانية التي ظلت لغة العلم والأدب المشتركة بين شعوب الشرق الادنى من ايران الى مصر على مدة بضعة قرون كذلك. وهي اللغة التي تكلم بها المسيح، اذ كانت قد أصبحت لغة اليهود منذ جلائهم الى بابل.
ثم عبر اللبنانيون عن فكرهم، أو أدبهم، باللغة اليونانية. فكان لنا فيها علماء، وشعراء، وفلاسفة بل أرباب مذاهب فلسفية.
وعبرنا بعد ذلك باللغة اللاتينية. هذا مع احتفاظنا، طوال هذه الأحقاب، باللغة السريانية التي ظللنا عليها، مع تسرب العربية الى مدننا وسواحلنا فكنا نعبر باللغتين معا ً.
واستمررنا على هذا حتى استكمال انتشار العربية في جبالنا، في غضون القرن الثامن عشر.
وكنا في القرون الوسطى، في عهد الصليبيين نعبر باللغتين: السريانية في الجبال والعربية في السواحل، وباللغات الاوروبية المجلوبة، المعروفة بالرومانية. ولنا في كل هذه اللغات تآليف. وهو ما جعل للبنان هذه الميزة الطريفة من تعدد اللغات، التي أفردته بين جميع شعوب الشرق الأدنى بثقافته الخاصة، المركبة العناصر، الجامعة بين الشرق والغرب.
أما اليوم فمعروف أن لبنان لا يعيش اذا تخلى عن ينابيع هذه الثقافة، ولا بد له من اتقان لغتين على الأقل من لغات الحضارة الانسانية، الى جانب اللغة العربية.
وقد يستغرب الناس اذا قلنا أن الأدباء اللبنانيين المعاصرين، في الوطن، وما وراء البحار، الذين يكتبون باللغات الأجنبية: الفرنسية، والانكليزية، والألمانية، ولا سيما البرتغالية والاسبانية، هم أكثر من أدباء لبنان الذين يكتبون بالعربية... مع اتقان هؤلاء لهذه اللغة المضرية وامتلاكهم ناصيتها على اكتناه، وتفهم واستبطان، وحسن تصرف يفوقون بها جميع المتكلمين بالضاد شرقا ً وغربا ً.
هذه الميزة لن يفقدها لبنان، مهما حيك من مؤامرات على ثقافته، ومهما بيت لهذه الثقافة في الأوساط الرسمية، وغير الرسمية، من نيات التعتيم والتجهيل.
فلا يحجب نور الشمس بقطع القماش المهلهل، ولا توقف الحياة بالارجاف بالأوبئة والتهويل بالموت.
فيمكننا الآن، بعد هذه المقدمة أن نحدد الفروق بين الأدبب اللبناني والأدب العربي، بل الآداب العربية، أو على الأصح، "آداب اللغة العربية، بصيغة الجمع، وبالنسبة الى اللغة. ذلك أن الأدب العربي الخالص من حيث كونه التعبير عن شعب عربي معروف موصوف بذهنيته الخاصة، وصفاته المميزة، وعقائده، وتقاليده، وتراثه، في بيئة معروفة، انما هو الأدب الجاهلي وحده. أما بعد انتشار اللغة العربية بانتشار الاسلام، ومنذ العصر العباسي خاصة، وقد أصبحت لغة شعوب ومناطق، وقارات، بعيدة عن بلاد العرب، ولم يكن لها بتلك اللغة صلة قبل الاسلام، فقد أصبح الادب العربي آداب هذه الشعوب المتبانية: الفارسي، والديلمي، والآرامي، والتركي، والكردي، والقبطي، والبربري، والاسباني، معبرا ً عنها باللغة العربية، فصح اذا ً انها أصبحت آداب لغة، وحق لجرجي زيدان أن يسمي كتابه في تاريخها "تاريخ آداب اللغة العربية".
أما الأدب اللبناني فعلى العكس من هذا. أنه أدب شعب واحد عبر عن أفكاره ومشاعره بلغات متعددة منها العربية. فيكون الادب اللبناني المعبر باللغة العربية فصلا ً من تاريخ هذا الادب الطويل، يأتي بعد الفصول: الكنعانية، والسريانية، واليونانية، واللاتينية، وقبل الفصول الاوروبية بالفرنسية، والانكليزية، والاسبانية...
ومثل هذه الظاهرة نراها في الأدب الأميركي، وبعض الادب الكندي، وبعض الأدب الهندي، على أثر انتشار اللغة الانكليزية في مستعمراتها بالعالم الجديد وبالشرق الأقصى.
وكذلك القول عن الأدب الفرنسي اللغة في كندا، وسويسرا، وبلجيكة، والسنغال. وعن الأدب الاسباني اللغة في المكسيك، والارخنتين، وأكثر جمهوريات أميركا اللاتينية.
ومن يزعم ان جبران خليل جبران أديب انكليزي أو أميركي؟ انما هو اديب لبناني عبر بالاميركية، كما أنك أنت أديب لبناني عبر بالعربية.
س: وبالنسبة الى ثقافة الأديب، فهل لي أن أسألك ما هي الكتب المفضلة لديك، التي نشأت على مطالعتها، والتي تطالعها حتى اليوم؟
ج: يتناول الاديب مادة ثقافته من أي كتاب يقع له. هذا اذا كان الكتاب يستحق هذا الاسم. أما اذا كان من النوع الموضوع للتسلية والالهاء، فيكون نصيبه نصيب الغذاء الجسدي من التسلية بالمكسرات والمخللات، وما اشبه من ملاهي الفم.
بيد أن في الانسان عاطفة تجعله يحن الى الكتب التي كونت مطالعاته الاولى. فهي كالأشخاص الذين سبق له أن عرفهم وصادقهم قبل غيرهم. وهنا يصح قول أبي تمام: ما الحب الا للحبيب الأول.
وعلى هذا فاني لا أزال أذكر الكتب الأولى في مطالعاتي، بعد أن باشرت القراءة "كرجا"، وهي التي كانت في مكتبة البيت: "الانجيل"، و"نهج البلاغة" لعلي بن ابي طالب في شرح محمد عبده، و"مقامات الحريري"، و"مجمع البحرين" للشيخ ناصيف اليازجي، و"مجلة الضياء" لابنه الشيخ ابراهيم، ومقدمة "مرجع الطلاب" لميخائيل عيد البستاني. ثم رواية "سمير الأمير" لسعيد راشد البستاني.
وما ان تقدمت بي السن، وتنوعت مطالعاتي، حتى أخذت أشعر بالميل الى بعض المؤلفين دون البعض الآخر، فاختار، وأعاشر، وأصادق. واذا بأبرز الذين آنس بهم حتى اليوم، ويسرني محضرهم، وأسعى للاستمتاع بأحاديثهم الجذابة، بما فيها من حرية الفكر، وصراحة القول، وسداد الحكم، وبناء النقد، وحرارة النكتة، ومفاجأة الجواب المسكت، وطرافة الصورة، والسخر من السخف والابتذال، لا يتجاوزون الثلاثين. أشتاق اليهم حينا ً بعد حين، كما اشتاق الى الأحباء والأصدقاء، بل أشعر بالحاجة الى التغذي بآرائهم، وأحكامهم، ونوادرهم، في أسلوبهم الحي النافذ، وتعبيرهم الناشط المرح، كما يحتاج الانسان الى الغذاء المادي الناجع في قوام الحياه، وطاقة السعي.
وفي طليعتهم الشيخ هوميروس في الالياذة (أقرأها في ترجمتها الشعرية لسليمان البستاني). وقد أضفت اليها منذ اكتشافات رأس شمرا، الآثار المنسوبة الى اوغاريت، لا لأنها ألفت في اوغاريت، أو عاش مؤلفوها في اوغاريت، بل لأنها وجدت في مكتبة القصر الملكي في تلك المدينة ثم "سفر أيوب"، و"مزامير داود"، وكتاب "الاقتداء بالمسيح" (اقرأه في ترجمة الاب قرنيه بنكهتها المعتقة).
ثم الجاحظ في كل ما كتب، ولا سيما ردوده على منتقديه، وبديع الزمان في "رسائله" الشاكية، والمتنبي، وابن الرومي، والمعري في "لزومياته، وفي "رسالة الغفران" بنوع خاص، وعبد المسيح الكندي في "رسالته" الشهيرة. ثم الشيخ ابراهيم اليازجي في نقوده ولذعاته (في "الجنان"، "و "البيان"، و "الضياء"). والشيخ عبد الله البستاني في "مناظرته" المغربي والكرملي. ثم ولي الدين يكن، وشارل قرم، وخليل مطران، وصلاح لبكي، وعمر فاخوري، ويوسف غصوب، وأمين نخله.
وفي الآداب الاوروبية: سرفنتس، وموليير، وبسكال، ولا برويير، ثم الفرد دوفينيي، وكزافيه دو مستر، وسانت بوف، وتشارلس ديكنس، وألفونس دوده، وابنه لاون في نضاله الصحفي، وهنري لامنس، وبول فماليري، وألكسي كاريل، وجوفاني ياييني، وفلتون شين.
س: وماذا ترى في مستوى الأدب اللبناني اليوم؟ وهل أدرك ما تطلبه؟
ج: لا يمكن لأي أدب في العالم، ولا لأي فن أن يدرك المستوى الذي نطلبه. لأننا نطلب دائما ً المثل الأعلى، ولا يدرك هذا المثل في عالمنا، لحسن الحظ! والا لما أمكنت المنافسة بين الأدباء والفنانين وسائر المبدعين في الفكر الانساني. وهو معروف بالاختبار العادي أن كل ثمرة أدركت للنضج فوصلت الى الكمال، مالت حتما ً الى التهافت والسقوط، فكانت في ذاك نهايتها.
من هنا كان الفرق بين الفن والعلم في تجليات الفكر البشري. ذلك أن الحقيقة العلمية، ولا سيما في العلوم الدقيقة المضبوطة، التي تسمى العلوم المحضة أو الخالصة، هذه الحقيقة، اذا أدركت، أقفل الباب على الباحثين فيها فأقرت كسبا ً ثابتا ً. وأمكن الباحثين المحدثين تركها وتجاوزها والبناء عليها الى ما فوق. فاذا حاول مثلا ً أحد الكيماويين المحدثين أن يحلل الهواء مثلا ً، أو أن يعمد الى تحليل الماء، أمكننا أن نقول له: خفف عنك. فان هذا الموضوع انتهى تحقيقه. وقد قام العلماء قبلك بهذا الأمر. انما يمكنك ان تسعى الى مشروع آخر.
ولكن اذا جاءني شعار شاب، وقال: أود أن أنظم قصيدة في غروب الشمس. فهل يجوز لي أن أصرفه عن هذا الموضوع، وأقول له انتقل الى غيره، لأن الكثيرين قبلك وصفوا الشمس. قبلك ابن الرومي، وخليل المطران. فانتقل الى وصف القمر، اذا شئت. كذاك اذا قام اندريه جيد بوضع رواية في "الملك أوديب"، هل نلومه بقولنا قد سبقه الكثيرون، في هذا الموضوع، منذ عهد سوفوكليس.
لا ! لأن من ميزة الأدب، وبالتالي من ميزة ساتئر الفنون أن يبقى الباب مفتوحا ً، في أي موضوع كان، لسائر الفنانين على ممر العصور، لأنه لا يمكن لواحد منهم أن يدرك الكمال أي يصل الى المثال الأعلى، أو الى المستوى الذي يطلبه. ولم يكن الأدب اللبناني المعاصر ليشذ عن هذا الناموس الطبيعي في الموضوع الفني، ولا يخفى أن الفن انما هو التعبير عن الجمال. وما هو الجمال، ان لم يكن ذاك الشيء المتحرك نحو ادراك مثله الأعلى، أو حركة كل شيء في العالم، حسنا ً كان أم قبيحا ً، نحو مثله الأعلى؟ هذا المثل الذي لا يدرك لحسن الحظ، كما قلنا.
س: بقي سؤال على الهامش. لقد كثر الكلام، في هذه الأيام، على العلمنة، أو العلمانية. حتى جعلها بعضهم الحل الوحيد للأزمة اللبنانية. وانه بالغاء الطائفية تزول اسباب الخلافات بين اللبنانيين جميعاً، فما رأيك؟
ج: في سؤالك عدد غريب من المتناقضات. وليس الذنب ذنبك، لأنك تنقل ما يقال ويردد. انما هو ذنب من لا يفتش عن معنى الكلمات قبل أن يستعملها، ولم نعهد هذه الدقة في أحد ممن يتبرعون بالحلول، قيلقون الكلام على عواهنه، ولا يشعرون بأية مسؤولية.
أما اذا نظرنا الى المعنى المتعارف عليه في العلمنة، والمعبر عنه بجملة تبسيطية تعني: فصل الدين عن الدولة، مقابلة للنظام التيوقراطي، نجد أن لبنان، في دستوره وواقعه، يبدو الوحيد في هذا الشرق الادنى دولة غير تيوقراطية، أو دولة علمانية لأن جميع جيرانه، دون استثناء، من الدول العربية حتى اسرائيل، كلها دول تيوقراطية، أي أن الدولة لها دين. والقانون فيها يفرض تطبيق الأحكام الدينية، بمعنى أن من يضبط في شهر رمضان ، في احدى الدول العربية، مفطرا ً يأكل في السوق امام الناس، ينظم به ضبط، كمن يخالف نظام السير مثلا ً، ويعاقب على ذلك.
ويطبق هذا القانون في بعض هذه الدول حتى على غير المسلم. أما في لبنان فالمواطنون احرار بأن يصوموا أو يفطروا، الى أي مذهب انتموا.
هذا ما تعلق بفصل الدين عن الدولة.
وأما وصف العلمانية دواء ً للأزمة اللبنانية، فهو جهل أخرق بالاسلام. فليس الاسلام دينا ً منفصلا ً عن الحكم. انما هو دولة لها دين. فالدين في الاسلام بنسبة الروح، والحكم الزمني الممثل بالدولة بنسبة الجسد. فاذا فصلت الروح عن الجسد، لم يبق للكائن من حياة. وهو معنى القول: لا علمانية في الاسلام، ولا اسلام حيث العلمانية. وكل قائل عكس ذلك، فهو اما جاهل يشفق عليه، أو منافق يزرى به.
الأحرار