حافظ والمطران والشوا - وسام الاستحقاق اللبناني لحافظ ابراهيم
المعرض العدد الخامس والعشرون ايار- تموز 1929 ص 17
لم اشهد قبل اليوم حفلة في الجامعة الاميركية فلا أهم بواحدة مرة الا وتصرفني عنها مشاغل حوائل ولكنها الأمنية دنت أمس، وعلى اكثر مما فيه رغبت، وبات لي ان اعرف شخص حافظ الى جانب من عرفت منرفاقه المطران والشوا وسواهما قاعة الجامعة بسعتها وجلالها ملأى بصفوة من كرائم وكرام بيروت عاصمة العلم والادب في الشرق ونظام انيق مستكمل تأخذ بطاقتك وتسير بدلالتها فتقف على موضعك المرسوم محفوظاً لك لا ينازعك فيه متطفل... وكراس رصفت اسماطً غير لاصقة بالارض ولكنها لم تقلق مواضعها ولا تململت بمن حملت.. واصغاء حتى ليسمع المرء فيه رجع انفاسه. عمدة الجمعية يستقبلون المدعوين بلباسهم الرسمي وشراتهم الحمراء ولم اعجب فيما عجبت الا لهذا الباز ( جرجي) فهو في كل مكان واوان، ومن دواعي الاسف انه لم يكن من خطباء الحفلة.
على المنصة حافظ والمطران والشوا والسودا والعيسى والمقدسي. هؤلاء اختيروا للكلام وفي الاول حيالهم، رئيس الوزراء ورئيس النواب والوزراء والمديرون يحيطون برئيس الجامعة ويليهم الجمهور الهادىء الصاغي.
كنت احسب اننا نضن بحفلات الجامعة فنبقي لها نظامها ودقتها فاذا بنا نأبى عليها ذلك في مواعيدها واذا الخطابة تبتدىء بعد التاسعة وكان موعدها من قبلها.. هي وصمتنا اللاحقة بنا لا متحول لنا عنها.
بدأ الامير رئيف ابو اللمع فالقى بيان جمعية تهذيب الشبيبة فاعطى الثقة عفواً وبلا مناقشة على نحو ما يثق النواب ببيان الوزارات.
وجاء الشوا يمهد لقصيدة المطران فاستفز الشعور ونبه النفوس فكانت يقظة تملأ فسحة الحياة إذكاراً جميلاً لذيذاً ولكان سامي مقامه السامي وتختار في الذي تقوله فيه وهو اشجى ما تسمعه اذناك من مشجيات هذا العالم، بل يذهلك كيف لا تتعثر القوس السابحة ولا تنكمش الاصابع الساحرة وقد سالت فوقها جوارح الناس ونفوسهم حنيناً وتشوقاً؟
وكانت للشوا رجعات بعد كل كلام ود الناس لو ان ليلتهم الابد، والشوا قائم يراودهم على الطرب مرة تلو المرة فيطربون.
وقام الخليل وهو رغم ( جيمه) المصرية ورغم مارن ( انفه) ما زال ذلك اللبناني المعروف بحنينه الى لبنان ولهفته على لبنان. وخليل جاء ليكون صلة تعارف بين لبنان الذي يحب وبين حافظ الذي يود، ونعمت الصلة الوشيجة، انها والله لذخيرة يزهو بها الجانبان.. قام فالقى عصماءه في شاعر النيل واصفاً، فارسلها شكيمة لكل لسان. وما عسى يقول قائل في حافظ كرجل وكشاعر بعد هذه الدرر الغوالي التي نظمها خليله ولقد كان حقاً ان يعرفنا بامير البيان امير بيان.
وقام السودا محاضراً وللاستاذ في وقفته وفي سكونه وحركته وفي القائه وايمانه، في اضطرابه، جيئة وذهاباً كل ما يتمناه من يريد الخطابة ولكن خطبة الاستاذ في حفلة الجامعة لم تكن من غرر خطبه وكأني به اقسم الا يتركن علماً من الاعلام التي تضمنها ( لاروس) الا حشره في معرض كلامه.
لا يلومن السودا لائم، اذا لم ينتصر كل الانتصار للناحية التي اختار من موضوعه، فهو من شجون الانتخابات في المقيم المقعد. ولقد رأيناه ينصرف في الجزء الاخير من خطابه الى الانتخابات حتى لتحسب انه يعلن بيانه ويروج دعوته.
فالاستاذ يوسف العيسى صاحب جريدة الف باء الدمشقية... صحفي لا يشق له غبار وقليل من جاراه بدقته وامتلاك سر مهنته. اما انه خطيب فلا.. ما عرفت بنفسي او بسواي ان الاستاذ العيسى من رجال المنابر ولعله اقتحمها للمرة الاولى فجاء تجربة غير مشجعة ومن ادلة الوهن فيه انه اطال بدون ما سبب.
فالاستاذ المقدسي يعرف الشاعر ويستخلص بتقديم حافظ للجمهور.
ثمة حافظ الذي لاجله احتشد هذا الجمهور فيقف ويملك على الناس احساسهم رغم قول الخليل " وان يكن بجمال غير متسم".
يقف حافظ وعلى صدره وسام الاستحقاق اللبناني.. فلما انتهى شاعر القطرين من قصيدته رأينا دولة رئيس الوزراء فوق منصة الخطابة حاملاً الى شاعر النيل تحية لبنان وتقديره لفضل الرجل على اللغة وآدابها.
سكوت عميق ينطلق من وسطه صوت حافظ ابراهيم شاعر النيل قائلاً:
"حيً بكور الحيا ارباع لبنان".
فعرفنا من هو الشاعر والى اين سيبلغ بهذه النفوس من الغبطة والنشوة.. منطق انيق.. وبتوقيع بديع ولهجة هي لهجة العرب وكفى!
مضى شاعر النيل يتدرج بسامعيه من سمو الى سمو، وينتقل بهم من فنن ريان الى فنن ريان، حتى اشقى بهم على مطلق الروعة، واجلى مسارح الغبطة والانس. وما ان ينتهي من البيت حتى يسيغوا على اثره بيتاً الفاظه التصفيق ومعناه الاعجاب.
دامت الحفلة الى منتصف الليل وقد تفرق القوم سكارى مما ادار عليهم حافظ والمطران والشوا وقليل على النفوس اذا استخفها الطرب وامتلكها الجذل وقد كرعت من سلاف الخلود.
بطرس معوض