الفنون الجميلة والاخلاق - المعرض العدد الثاني والثلاثون ايار / تموز 1931 ص 16.
الخطاب الجميل الذي القته في جلسة جامعة السيدات يوم السبت في 2 الجاري حضرة الكاتبة الاديبة المعروفة الانسة نظيرة زين الدين.
الفنون الجميلة يا سيداتي، تتناول الشعر وما هو بمنزلة الشعر من الادب، وتتناول التصوير وما يلحق به من مثل نحت وحفر، وتتناول الموسيقى وما يتبعها من لحن غنائي.
وانه ، ولئن كان الشعر يرينا في خياله جمال التصوير، وفي اوزانه جمال الموسيقى ، ويرينا في بيانه ما ليس لهما من جمال الفكر وجلال العقل ، وكان من اجل ذلك اجمل منهما واشد تأثيرا في العقول والنفوس، فلا ينكر ما للموسيقى من مثل هذا التأثير والعلاقة بالاخلاق.
واذا كان للشعر تأثير وللموسيقى تاثير، فلا غرو ان يكون تأثير الشعر مضاعفا اذا انشد بلحن موسيقي وصوت جميل.
واني لاعجب من ذهاب بعض الشرقيين الى ان الغناء او الموسيقى مما يخالف الرصانة في الاخلاق، فيحملون بذلك بعض اهل الفن على اخفاء ما وهب الله لهم من عنصر الجمال ويحرمون الاخلاق ان تكتسب من فنهم الجميل هذا جمالا، مثلما تكتسب من الشعر والادب الجميلين وغيرهما اني لاعجب من ذلك المذهب، مع ان في المعابد والجوامع والكنائس حيث تتجلى الارواح بجمالها، وتتحلى الاخلاق برصانتها وكمالها، يرتل التمجيد والتكبير لله ترتيلا، ومع ان القرآن يجود تجويدا جميلا، وهذا صاحب المزامير، امام الغناء، النبي داود عليه السلام، يقول في مزاميره:
" احسنوا العزف مع الهتاف على صوت العذارى، وعلى عشارى الاوتار، وعلى العود والحان الكناره، وبالمزمار والارغن والقيثارة، ويقول خذوا نشيدا وهاتوا دفاً وكنارة مطربة مع عود ، ورنموا للرب فان ذلك يجمل بالمستقيمين".
اني لاعجب من ذهاب بعضنا الى ان الغناء او الموسيقى مما يخالف الرصانة في الاخلاق ، مع ان الصوت الجميل ، والفن الجميل ، نعمة من الله والمنعم يسره ان يرى اثر نعمته على من اسبغها عليه.
ان ذلك الذهاب سيذهب قريبا من مخيلات بعض الشرقيين، اذ تقضي عليه الحقيقة لانه باطل. وها ان الفنون الجميلة قد اصبحت مادة من مواد التعليم في المدارس الراقية للجنسين في العالم المتمدن له.
الفنون الجميلة، ليست يا سيداتي الة لافساد الاخلاق كما كان يعتقد روسو، او كمن لا يزالون من الشرقيين يعتقدون. انما الفنون الجميلة، من الوسائل التي تؤدي الى تهذيب الاخلاق ورقي النفس. فكما يجني النحل من الزهر حلاوته، وكما يكتسب الكلام من سلامة الذوق طلاوته، هكذا تجني الاخلاق من الفنون الجميلة، مجاني طيبة جميلة، وتكتسب منها ما ينشد الضمير النقي الحي من الصلاح، وما تنزع اليه النفس الصالحة من الخير.
اجل ان جني الفنون الجميلة طيب جميل. والله يحب الجمال . بيد انه، ينبغي لنا ان لا يغرب عنا ان الفنون الجميلة تقتضي، كي تبقى طيبة الجنى، زكية الروح، جميلة الصورة، أن يكون موضوعها دائماً مثلها شريفاً جميلا. فاذا جعل الشاعر، أو المصور او الموسيقي موضوعها غير جميل، والبسها ما لا يجمل بها، فالعيب ليس منها، انما ذلك من سوء استعمالها بيد غير صالحة لها. ان رغبة النفس يا سيداتي في الاشياء الجميلة، تنبىء دون ريب بعلو وكبر فيها، وتدل على سلامة في الذوق منها. وقد وصف بعض الفلاسفة سلامة الذوق بضمير الفنون الجميلة أي بقوة النفس المميزة للجمال في الطبيعة والفن وقالوا ان ضمير الفنون الجميلة la conscience Esthétique شبيه بالضمير الخلقي la conscience Morale الذي يسير بالانسان نحو المثل الاعلى.
الفنون الجميلة يا سيداتي تدعو الانسان الى التمتع بملاذ روحية راقية، وكل من يتمتع بتلك الملاذ الروحية الراقية التي تهبها الفنون الجميلة للعقل والقلب والمخيلة، هو اقل تعرضا من غيره للميول السفيهة الشائنة.
وهذه الملاذ الروحية المجردة من كل عيب، البريئة من كل باعث نفعي، تمهد للانسان طريق الفضيلة، وتحمله على التضحيات الني يوجبها حب الفضيلة عليه. والفضيلة يا سيداتي، وقد وصفها الفلاسفة بالنظام الخلقي، اي بجمال الخلق، ليست طبيعية او غريزية فحسب، انما هي ايضا مكتسبة من النظام والجمال الخارجيين، اللذين يجدهما الانسان في الطبيعة، وفي الفنون الجميلة، فتتأثر نفسه بهما وتجعلها سجية لها. وكل نفس على خلق عظيم، ومنهج قويم، تشمئز من الرذيلة القبيحة، لتجردها عن الجمال والنظام الخلقي، وتسعى وراء الفضيلة لما فيها من جمال ونظام.
قال ( لا برويير) الكاتب الفرنسي المشهور في علم الاخلاق: حينما يريد الانسان ان يتحقق جمال قطعة شعرية او ادبية فليقرأها، واذا شعر عند مطالعتها انها ترفع نفسه وتوحي اليه عواطف شريفة سامية جريئة، فليحكم حالا بأنها جميلة صالحة للمطالعة. اذن لا برويير معلم الاخلاق يرى ان الجمال في الشعر، وفي القطعة الادبية يؤثر في اخلاقنا تأثيراً سامياً وجميلاً.