الدكتور أمين فرشوخ - وجه آخر لعبد الله العلايلي
يقول الامام مالك بن أنس: "اذا منع العلم عن العامة فلا خير فيه للخاصة".
فشكرا ً لمن جمعنا لنتعرف الى عالم كبير يعتقد البعض، من العامة ومن الخاصة، أنه "لعمق تفكيره، واتساع معرفته، وخوضه في العلوم الصعبة، لن يسهل التعرف اليه، وفهمه، فليترك ذلك للخاصة".
لكننا، أكاديميا ً وتربويا ً، نرغب أن نكشف عن وجوه، ونحلل مواقف، ونتبصر أفكار هذه الشخصية الغنية، في محاولة لتقريبها من الجميع، وحسبنا أننا نجتهد.
نعرف عبد الله العلايلي بعمامته عالما ً دينيا ً تخرج في أزهر القاهرة عام 1936، وخطب في المساجد وكتب الكثير من المقالات الدينية والكتب.
ونعرفه عالما ً لغويا ً، وضع "المعجم" و"المرجع"، بعد أن نشر "مقدمة لدراسة لغة العرب".
ونعرفه أيضا ً، اصلاحيا ً، في كتاباته التاريخية والاجتماعية والقومية.
وراء هذه التجليات للعلامة عبد الله العلايلي، وجه مؤسس لها، رأيت أربعة ً من ملامحه، هي :
أولا ً: الايمان: فالله عنده "اله باق قديم، يدير هذا الكون. والاسلام عنده دين الحق والعدل والحرية والعلم والعقل، اسلامه ينتصر في ظله الحق على الباطل، ويطغى الخير على الشر، ويمحو نوره الظلام.
والعلايلي يرى الدين "ضربا ً من ضروب المعتقد، يزود الانسان بوازع مما بعد عقليته، يضبط سلوكه نحو المجتمع اذا تعارضت مصلحة الفرد ومصلحة المجموعة، وبذلك الوازع يحتفظ المعتقد الديني باخضاع المصالح الخاصة للمصالح الاجتماعية العامة". فالدين حضارة ومحبة وتسامح لا مدعاة تناحر وتعصب وتخلف. انه الايمان العاقل، في ضوئه صاغ العلايلي مقولات تجديدية في الشأن الديني والسياسي والاجتماعي.
انطلاقا ً من هذا الايمان كتب مقارنا ً بين الأديان: "كان الاسلام وكان التوحيد. ولا يصرفك عن هذا القول زعم زاعم بأن التوحيد طبع غيره ورسم سواه. فاليهودية ديانة قصر، أما الديانة الأخرى ذات الأقانيم الآيلة الى الواحد، فانها في البحث الديني المقارن: ديانة استئحاد أو استيحاد (وزن "استفعل" من جذري "أحد" و"حد"، يعني الطلب والنشدان والصيرورة). ومهما يكن، فالاستيحاد أقرب الى التوحيد من معتقد القصر البحث، المستولد من أنانية ذويه، فالههم وقف عليهم وهم وقف عليه، فضنوا عن التبشير به". يتابع: "والاسلام كان السباق الى التوحيد بالمعنى المطلق، أو بتعبير الاشراقيين من أصحاب النسك العقلي: ال "هو الأعلى"، وأحدد هذا التحديد، استبعادا ً لدعوى الاخناتونية، وأنها البادئة بالوحدانية، وأنا ما كنت لأسقط زعمهم فيها، ولكني أحصرها في دائرة المتشخص المتعين من الربوبيات، لا في دائرة المطلق حين نادت بتأليه، أو قل، بتصنيم القرص الشمسي "آتون" أي جعله الصنم الواحد الأحد".
وبعد تحليله التقارب بين الدينين السماويين الحديث عن التقارب بين المذاهب الاسلامية، يتابع: "وما كان بهذه المثابة الاطلاقية لا يقع الاختلاف فيه على الثابت الراسخ بل على المتفرع والمتحول، والى هذا أشار الحديثان الشريفان كلاهما، أحدهما وهو صحيح صحيح من حيث الرواية: بعثت بالحنيفية السمحة، أما الآخر، وفيه مقال أي يشك في اسناده، فهو: "اختلاف أمتى رحمة". وينهي العلايلي مقدمته لكتاب "التقريب بين المذاهب الاسلامية": "على الرغم من أني أكثر ميلا ً الى التوحيد بهذا المعنى، أتسع باغتباط الى دعوة التقريب هذه على شكل أنها نقلة اليه أو تلقاءة، منطلقا ً في هذا من التأديب النبوي: فسددوا وقاربوا. فالأدب المحمدي يقوم على طبيعة الأشياء وتطويعها، في غير اعنات ولا رهق: السداد ان أمكن، والا فمقاربة السداد".
ثانيا ً: الثورة، و"ثار" (تقليدا ً للعلايلي) هاج وغضب، والثائرة هي الضجة والشغب، لكن العلايلي، وهو يثور، لا يفقد صوابه بل يفصل بوعي ليرسم المواقف، ثم يحلل بموضوعية لينصح. انه اصلاحي مرب ً، بناء لا هدام.
- يقول في السياسة: "لا أرسل الكلام ارسالا ً: أيها الزعماء دعوا الشعب ولا تغرروه بالجهاد السياسي، وخذوه بالاعداد الاجتماعي أولا ً. حطموا أغلاله الاجتماعية ليشعر أنه حر في بقعة الأرض الصغيرة التي تحتوي عليه. حطموا له القيود التي ولدها الجهل والضعف ". فالاصلاح عنده اذا ً هو ثورة في الفكرة، وثورة في النداء، وثورة في العمل. ثار على الطائفي والمذهبي والمادي والمتطرف، كما على التاجر الجشع والسياسي المستبد. ومن هذا يقول: "نتبين أن الرجال المتزعمين لدينا اما أنهم من صنف التجار الذين لم تختمر نفوسهم بتربية اقتصادية فضلى، واما أنهم بسطاء لا تتسع أدمغتهم لمشاريع عمرانية انتاجية كبيرة يوجهونها في خدمة المجتمع. واما أنهم نفعيون يغررون بالجماعة ليستفيدوا شخصيا ً على مقدار التغرير. وأيا ً كانوا فانهم لا يصلحون لمقاماتهم ومنازلهم، ثم لا يصلحون أبدا ً لأن يسوقوا الأمة، بل عليهم أن ينساقوا بها".
هكذا قارب أيضا ً موضوع الاستقلال والصيغة اللبنانية والأحزاب ونظرية المحيط والقومية العربية.
بعدما قرأنا ما قرأنا، نتساءل: ما لهذا الشيخ المعمم ينبري للمواضيع السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويدلي برأيه مهاجما ً، بجرأة كبيرة، في بلد قلق وزمن متأزم يسبق الاستقلال؟ (سنة 1938 نشر كتابه "أين الخطأ متضمنا ً معظم هذه المواقف).
- ولما درس لغة العرب ووجدها، مبكرا ً، حية ً مرتبطة ً بالفكر الانساني العام تجاري تطوره كما تجاري تطور الحضارة، قال: "هذه الحقيقة لم تداخلني بالشك في كفاية العربية نفسها، بل وضعتني وجها ً لوجه أمام سؤال بدأ يلح علي الحاحه: هل من قيمة حقيقية، أو نهائية، لنتائج المدرسة اللغوية القديمة؟".
هكذا بدأ العلايلي يكون رؤيته اللغوية الجديدة، متخذا ً شعار "ليس محافظة ً التقليد مع الخطأ، وليس خروجا ً التصحيح الذي يحقق المعرفة، فلا تمنعني غرابة رأي أظن أنه صحيح من ابدائه، لأن الشهرة لم تعد أبدا ً عنوان الحقيقة، وأيضا ً لا يحول بيني وبين رأي أنه قليل الأنصار".
رؤيته اللغوية التي صاغها، أثارت المشتغلين بقضايا العربية، بين مؤيد وناقد قاس، وبقي متقدما ً متحديا ً، فوضع "المعجم" عام 1954، ثم "المرجع" عام 1964، ومن خلال فهمه اللغة، وضع كتابه "المعري ذلك المجهول" عام 1944، معتمدا ً معجمية ً خاصة في فهم هذا الشاعر الفيلسوف.
غاظه اعتماد اللغويين شكلا ً قاسيا ً من المحافظة، وهم يشهدون من مطالب العصر على اللغة، ما كان كافيا ً أن يزحزحهم. فقال بضرورة دراسة العربية لتخليصها من الفوضى مع مراعاة مطالب العصر، وضرورة دراستها لتنسجم والعقل العربي المتطور، داعيا ً الى تسهيل نطقها لا الى اعتماد العامية.
ورأى صعوبة اللغة اليوم في سيطرة اللغات الأجنبية، والفهم الخاطىء بأن العربية صعبة. وما شيوع اللحن الا لظن الناس أن الاختزال طبيعة في اللغة، وأصل الصعوبة اعتماد اللغويين على السببية العقلية في تخريجهم نظرية العامل كما فعلت مدرسة البصرة اللغوية. فالعرب تناولوا اللغة تناول الجمع فقط بعد أن خرجوا من جزيرتهم خروجا ً مفاجئا ً، فوقفوا في وجه كل اجتهاد يرمي الى تحرير اللغة من التفلسف. ولو بقي العرب فترة ً أخرى في الجزيرة لأسقطوا الكثير ولحصروا المستعمل لأنهم كانوا يهتمون باللغة. لكنهم خرجوا واختلطوا فاكتفوا بضبط الموجود في موازين معينة، ولما لم تتكيف اللغة مع الأوضاع المستجدة، كان مجال لابتداع أشكال لغوية دارجة هي العاميات.
يقول أستاذنا رمزي بعلبكي: "المعجم العربي سائر الى ما رسمه العلايلي من نهج. اكتملت لديه نظرية اللغة وان كان المرجع لم يكتمل".
تجرأ العلايلي فاقتحم التاريخ الاسلامي مسترجعا ً الحقب، مراجعا ً السير، منقبا ً محللا ً مدخلا ً علم النفس الاجتماعي وسواه في تقليبه الرأي، فكتب في الحسين "وارث الجينات الكهنوتية"، مستعيرا ً في كتاباته بعض الفن الروائي والمسرحي، من حوار وتأزم واستعانة بالخيال، من دون أن يخرج عن الوثائق. طرح المواقف بجرأة غير آبه أنه مس ما يعتقده البعض من الكبائر أو المحرمات: "رأى الحق فكتب فيه".
منهجيته في هذه الكتابة التاريخية الاجتماعية دينامية. فهو يرفض "التعبد للماضي والتراث"، وأحدث بمقولاته التجديدية هزة ً عميقة في الأوساط الدينية والاجتماعية والسياسية، وكان تعامله معها موضوعيا ً متجردا ً من أجل الكشف عن الحقيقة، يقول: "دراسة التاريخ اقتلاع من نفوس النشء لفرض مثلهم في من كشف عنه الماضي دونما ملاءمة، والاشادة بحاضرهم قبل كل شيء دونما امتحان".
– هذه الجرأة عند العلايلي تقودنا الى نقطة أخيرة تجسد "ثورته". فالشيخ المتعمم يعرف أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وأن وظيفة الفقيه التمرس النظري والتطبيقي في امتلاك القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. اذا انبرى، هو المتمكن العارف، لاعادة النظر في مقولات دينية اجتماعية أغضبت كثيرين. فعنده أن "التحجر والجمود يحولان الشريعة الى عبادات رتيبة فاقدة معناها وجوهرها، فأطلق المواقف من الافتاء والاجتهاد والفقه، وأدلى برأيه في الزواج المختلط، في العلمنة، في التلقيح الاصطناعي، في ملكية النفط العربي. (لقب ب"الشيخ الأحمر" الخارج عن المعهود) وكتابه تضمن بعض هذه المواقف وأثار عند صدوره (1978) سجالات حامية وأغضب الحكام والفقهاء، ما أدى الى سحبه من الأسواق.
أحدث العلايلي، في كتاباته وسلوكه، ثورة كبيرة ً ضد التيار الثقافي الديني السائد. كان مناضلا ً حرا ً جريئا ً، هدفه تطوير المجتمع العربي والانسان العربي، وتحريره من مشاعر الحنين الى الماضي فقط وتقديسه.
ثالثا ً: التميز. هذا الجريء الموسوعي الواثق من معرفته، لم يكن يخاف اقتحام ما يعتقده البعض ثوابت. هدفه، كما توج مقدمة "أين الخطأ"، هو الآية الكريمة ("قل هذه سبيلي، أدعو الى الله على بصيرة")، فهو قارىء نهم، اطلع على كتب الأقدمين والمحدثين. قرأ قراءة ناقدة، فعرف المفاصل وحلل، متسلحا ً بالنقد العلمي، معملا ً عقله في رسم النتائج فكان مرتاحا ً لمواقفه أي (كان على بصيرة) مما تبنى. وفي الاحاطة بكتب التاريخ والفقه والأدب والعلوم والفنون التي تتفرع منها، وفي القدرة العقلية على الاستيعاب والتحليل والتركيب أو التوليف، مع ثقة بالنفس، كان متميزا ً في سلوكه وفي ما كتب، فالشيخ المتعمم لم يقبل أن يكون خطيبا ً في المساجد، أو باحثا ً جامعا ً مفسرا ً منخرطا ً في مدرسة من المدارس الموروثة، أو مدرسا ً حافظا ً مراجعا ً ملقنا ً.
هذا التميز لم يسبب له القلق بل زاده ثقة ً بنفسه. سألته في مقابلة صحافية سنة 1972 عن مزاجه أثناء الكتابة فأجاب: "تكلموا عن فوضى، ربما، لكن ليس هذا هو المقصود. لا آلف التنظيم الذي يعمل به البعض أثناء القراءة والكتابة، فمنذ زاولت القلم، أو قل التأليف، منذ باكورة انتاجي سنة 1937، وأنا أكتب بحرية، على راحتي".
رابعا ً: الملأة - الثقة (هيئة الامتلاء). "أملأ القوم: أغناهم وأقدرهم الواثقة".
في اهدائه كتابه "دستور العرب القومي " (1941)، كتب "بعض من فن الحياة في بعض من أغلاط الأحياء". فالعلايلي أدرك باكرا ً أن العيش فن. وفي مقدمته لديوان الشاعر جمال الملاح كتب: "الفن العظيم يجمع بين اللذة والجمال والفائدة، وان لكل شيء مرجعا ً عميقا ً في أنفسنا. الفن والوجود والموجود شيء واحد، فالفن اذا ً اجتماعي في جوهره وروحه، غايته أن يسمو بالفرد على ذاته، بتوحيده في الجميع ". وفن الحياة أن تستطيع الجمع بين هذه جميعها. والعلايلي أتقن ذلك فجال في مناحي الحياة الصعبة جدا ً والأقل صعوبة، وخرج منها فائزا ً. الموهبة أساس والباقي اضافات ضرورية، والعلايلي يعرف نفسه. فهو كتب "القلم الذي لا نفتأ نقدس اسمه، هو الذي يعطيك فنك من واقعك لا الذي يخترعك. أما الذين يقولون غير هذا القول، أفتظنني مخطئا ً اذا أنا لم أر فرقا ً بينهم وبين دون كيشوت؟ يخالون أنهم اخترعوا، ويخالون أنهم أقلام ".
الشيخ العلامة بعمامته وسط عالم من الكتب، تلمس فيه الجدية والصرامة وثقل التراث. سألته عام 1974 أن يقترح علي موضوعا ً لأطروحة الدكتوراه، ناقلا ً له تزكية صهره الدكتور أسامه عانوتي والموافقة المسبقة لأستاذي المشرف الدكتور جبور عبد النور على ما سيختاره لي. أجابني بعد رشفتين من فنجان شاي: "أدرس الوجه الآخر للحياة المعروفة، الجانب الذي يعتقده الآخرون سهلا ً. أدرس الفكاهة في الأدب، وكيف تطوعت اللغة لمعالجة هذا الجانب الضاحك من الحياة. وهو جانب حضاري لم يلتفت اليه كثير من الباحثين". واستطرد، وأنا مشدوه لما أسمع، في سرد طرف من التاريخ الاجتماعي العربي والأجنبي، مشيرا ً الى تقنيات الاضحاك محللا ً في اللغة والسلوك الانساني ليؤكد لي جدية الموضوع. أكثر من ساعة تحدث وأنا أدون. كانت جعبته غنية بما لم أنتظر أن تحتويه، وكان مندفعا ً يشجعني على دراسة ما لم أنتظر أن يسعى هو اليه، ليختم اقتراحه بابتسامة رضى كان مرتاحا ً مع نفسه (نفذت لاحقا ً ما اقترحه علي).
من هذا القلم الذي أعطاه فنه، والذي غمس ريشته في قلب كبير واثق من نبضاته، يستمد نسغه من عقله الغني واسع المدارك. من هذا القلم نظم العلايلي شعرا ً مع أنه قال: "لست شاعرا ً"، لكننا متأكدون أنه شاعرا ً بأحاسيسه، عارفا ً بقدراته، هذه الملأة - الثقة أوصلته الى أن ينوع في أساليب التعبير ويتميز. ويكفيني هنا أن أشير الى أن له شعرا ً غزليا ً وصوفيا ً وتاريخيا ً، وربما كان هذا الوجه الأخير عاملا ً على عدم اتمامه ما قام به، فمعجمه لم يصل الى نهايته، وكذلك نظرياته الاجتماعية والسياسية والدينية.
شكرا ً للداعين لأنهم أتاحوا لي فرصة ً متجددة لأقرأ العلايلي لا في ما كتب وحسب بل مسيرة ً ومواقف ومشاعر ولمعات. أقرأه ثقافة ً، حياة ً، جمالا ً، كما قال: "الحياة دفق وسكب ومد، جمالية فنها: عاطفة وعقل وارادة، ولذة الجمال فيها هذا الانتعاش العام".
فانتعشوا مع العلايلي.