توفيق بركات بقلم الدكتور جورج شبلي
للكلام آيات، فرُبَّ أهل الشأن يبادرون الى تخليد المَداد الذي ارتداه ونمَّقتهُ الأصابع. أمّا الفضيحةُ فأن يُقَطَّع ويُحَلّ ليُمحى أَثرُه، وكأنّ حِبرَه لا يُسقى إلاّ بالخيانة. وكما أنّ المرأة التي تبقى بغير شُغل، فإنّها تتشوّق الى الحَنان، هكذا الكلامُ الذي هو أساساً عملٌ إبداعيّ، إذا كان بالُ الناس مُتفرِّغاً منه، فإنّه يتَشَوَّق الى خَيال شاعر.
توفيق بركات الذي بلغ في الشّعر الغنائي عُلُوَّ أمره، ارتوى من لَون الكلام الذي أُشبِع صدقاً، لأنه لم يكن بمِثلِ ما تَقضي به الحَيَّةُ العمياء حين تدخلُ أبراجَ الحَمام. فالرَّجلُ رَبِيَ في حُجور الحُروف، ونشأَ بين أيديها، وطَبعَته غِيرةٌ عليها، فأشرفَ من أسبابها على غير قليل. لقد زَفَّت فطرتُه مواهبه بموج البحر، فكان وفيّاً لِدار هواه، ولعبت أصالة الحسّ عنده الدَّور الأَمتن في كتابة خطوط شعره، فجاءت فرائده بسيطةً تلقائية الجَمال بعيدةً عن الصَّنعة وعن قواعد التَجَمّل. ولأنّ توفيق بركات لم يأنس وهو في أَغَضّ عيشه إلاّ بما نسَجه بديع إحساسه من كلمات، بلغَت هذه من أَسفها عليه أن باتت معه في كَفَنٍ واحد ليلةَ مات.
كان أعظم آمال الكلام اللّحاق بتوفيق بركات، لا لتَعاتُبٍ وتَغاضُب، بل لوَجدٍ وتَحابّ. فالشّاعر لم يكن يقربُ الكلام كالجواري، بل كبنات الملوك يكلَف بهنّ ويجعل منهنّ عَمارةَ قصائده. إنّ السَّبب في تبريز بركات على كثيرين سواه مِمَّن نشروا على هيئاتهم أجنحة الطواويس، إنّما سلامةُ لسانه من العُجمة، لأنه لم يفسد كغيره بمجاورة أهل النُّبط ومُداخلته إيّاهم. فالشؤون والخُطوب في قصائده ارتدَت جميعها الجِلدة اللبنانية، فما فارقت أطواق لهجتنا، ولا خيَّبت في لساننا أملَه.
لقد قرع بركات النَّبع بالنّبع، فجاءت قصائده " اللبنانية " الرّائجة وثيقةً تُبيّن من جهةٍ أنّ هذا الشّاعر لم يُرِد أن يُسقى إلاّ من دِنّ وطنه، وهو الهاتِفُ "سيَّجنا لبنان" و"عالضَّيعة"، وتُظهرُ من جهةٍ أخرى تَهافُتَ أهل العرب على شُهودها، وحَطّ رِحالهم في دارها.
الشّعر الغنائيّ هو غُرَّة الشّعر، فكيف إذا ارتدى ثوب المَحكيّة وهي الأَلصَق ارتباطاً بالقلب، ليكون له نظامٌ لم يَخرج مِثله في البراعة. وإن مال مع غير بركات الى الطَّنطنة، إلاّ أنه نظر فيه وأمرَ له بِصِلَة، فتخرَّج معه عن ذكاءِ قريحة وصفاء ذِهن ليأتي قريبَ المَأخذ وأَنيقَ اللفظ على بساطته. وقد ظهرت إمارات التّجديد وهَجرِ المُكَرَّر في ما كَتب، ولا سيّما في ما يلامس حَميمَ النّفس وخلجات المجتمع، فَراجَ الإقبال على بضاعته التي نَفقَت على طَرز ناصِعي الشّهرة، صباح ووديع الصافي وفيلمون وهبي وعبد الوهاب وفريد الأطرش وسواهم من الكِبار الذين أخرجوا أحسن الألحان وأملَح الأغنيات.
توفيق بركات الغزير الإنتاج هو من صُدور المُجيدين في الشّعر الغنائي من حيث طاقاته الدلالية، فقد أخذ بِرُقيّ المعاني وسَلِس القوافي وبدائع الصُّوَر، حتى بلغ طرائف التَّعبير الذي يُسمَع بشَوق. والشّاعر المُبدِع هو أَسيرٌ فُكَّ من رِقّ الإشتياق، وليس كَنَبات الأرض أخطأَه المطر. لذلك، فالكلام المُوَشّى بالحبّ والإلفة والعَتَب والشَّوق، لم يكن حاشية في أشعار بركات بقدر ما كان أنصاراً له أوفياء. أمّا حظّ قصائد توفيق بركات في ابتكارها، فكونُها الأَوفرَ قسطاً من غَزَل الألحان، فتحصيل ذلك لم يكن إلاّ بكَون الشّعر فيها في الطَّبقة العالية. واللَّحنُ هو الحافِظ الأمين للكلمة، خصوصاً إذا جَمعت، كما هي مع بركات، السلاسة وأُنس النَّغم بها. لقد فكَّ جنِيّ الموسيقى كيسَ قصائده عن خِتمه وفَضفضَ صَدَفها، فتلقَّفته الأوتار وصوَّرته صورةً في صورة ليَكثُر على أَلسُن الخاصة والعامة. وبذلك، ابتهجَ توفيق بركات بجميع ما أَهدى.
توفيق بركات مِقدامٌ في المُسالَمة فهو لم يدخل غُبارَ مُبارزة أو ملعب مُنافسةٍ ليُصطَلى بنارها. لقد كان له بين ضلوعه قلب أمين، يتحدّث في الصّداقات عن ودّ صادق ووفاء صريح، كما انبعث عن نفسٍ راضتها الحوادث على القناعة والزّهد. لكنّ وجدانيّاته لم توجِب على الزَّمن إنصافه، فكافأه مِحَناً وشدائد ومَرضاً ما جعله يفيء الى عزلةٍ ليست بقصيرة، ويرتمي في غيابٍ لم يعالَج بدواء. وكأنّ الشّاعر الذي لم يردّ الحَجَر من حيث جاءَه، اكتفى بملازمته الصَّبر بعيداً عن النّاس، مُهتَدِياً بقول "أَردَشير": "الشدّةُ كِحلٌ تَرى به ما لا تراه بالنّعمة".
بموتِ توفيق بركات خلا الجوّ للذين صاهَروا الشّعر الغنائي على خدعة، فعينُ هذا لكثرة البكاء غاب عنها صفاء البَصَر، وإبهامُه وَقَّع الرُّقَع وكأنها القراطيس. لكنّه، بعد أن عاد إليه الرّشد، ظلَّ يصرخ ويطلب الغَوث فما انتبهَ إليه أحد، فراح يمزّق لِحيَتَه إذ يَئِس من النجاة. أما إبداع الشّعر الغنائي بعد توفيق بركات، فهو في أنّه لم يَقُل لأحدٍ مِمَّن صاهَرَه: "الله يرضى عليك يا إبني".