مارون كرم بقلم الدكتور جورج شبلي
ليس من باب الإدّعاء أنّ الحماسةَ لتغميس الكلمة في عهدة النَّغمة، هي من أَروعِ طرازات الإبداع وأَكنزِ مخطّطاته. وهي واحدةٌ من مقاييس سيكولوجيّة التَّنغيم ومقاصده التي أثبتَها التّأثير. فالكلمة الصِّرف، مهما جرى في تَنوّع تشكيلاتها، تبقى بحيثيّتها الوحدانيّة وَهماً تَماثُليّاً. والنّغمة، في المقابل، مهما اكتنزت دَفقاً لِوَحدها، لا تستطيع أضلاعُها أن تُعلِن قيامَ ترسيمة موسيقية متماسكة، لِعدمِ اكتمال علاقة الإنتاج. من هنا، كان من البدَهيّة الإستنتاج أنّه ما كان بإمكان الأزمنة أن تعجّ بمبتكرات المَغنى، لو ظلَّت إحداهما تجهل الأخرى ( الكلمة والنَّغمة ).
مارون كرم الكَلِف بالشِّعر الغنائي، والذي يُهيِّئ منظومه مادةً يصحُّ انتسابها الى أَحساب الألحان، كان يفتتح قصائده مثلما ينتفض العصفور وقد بلّله القَطر. فهذا الشِّعر مَذهبُ مارون كرم، حَصاهُ جوهرٌ وطعامُه هنِئ، وهو رَجيّ المَثوى فشاهِدُ اليأس فيه يَنطق، وحَبل المحروم فيه قصير. وهو معه يلمُّ تباشير الصَّباح الى أقراط النّجوم، فما هبَّ من لحظات الزّمن يُؤلَف ويُستَطاب. وعلاقته به ارتساماتٌ لِطاف تنضح عمّا حَنَت عليه ضلوع الصَّدر، وما وشّاه لسان الوجدان من تيهٍ أو غَصَص. كيف لا، والشِّعر في صميمه لا يأنس إلاّ بالنفوس الصافية التي ترمي بالقلب في سَمير المشاعر وفتنة الجَمال.
مارون كرم يسردُ شعرَه الغنائي بصيغة المتكلِّم، لأنّ كلّ قصيدة أَجمعَ عليها نواحيَ صدره، وأودعَها واسطة قلبه، فجرَت مجرى أَعشاره. من هنا، لم تكن قصائده مجرَّد قطرات ندى تذرفها العشايا لتجفِّفَها رعشات نُور الصَّباح، أو يَسمح بها الإبداع ثمّ يندمُ ويُعيدُها الى أبدِ السَّكينة. هي ما وُلِدَت لتُحتَبَس بل لِتعَمِّر وتُرضي شهوةَ السَّمع والبَصَر، من دون أن تتحاشى ما عداهما من نعيم الحواس. أمّا انتصار شِعر كرم على تَعاقب الوقت، فيعود الى ترويضه الحِبر على التَّحليق في كلّ الأَجواء، والى لُصوق طروحِه بالنّفس، والى جعله الّلفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً ليكونا معه نَوَّارَتَين لا يتبدَّدان في الأسماع، كما الجِبال لم تَزِح عن مَقارّها.
مارون كرم رأى وطنه مُؤَيَّداً بروح الله، وهو بين بُلدان النّاس أَطيبُها مَسكناً وأحسنُها روضاً، فكأنه الدرّ الأَنيق. لذا، لم يقف كرم من بلاده على الأطلال، ولم ينفطر قلبه لأنها جرحٌ نازف، فبلاده " مَحروسِة بعَين القِدرَة "، لذا هي أَرفعُ من أن تكون جسداً عارياً من غير لَون، فهي "خَضرا...زْرَعناها قلوب...". إننا عندما نقرأ شِعر كرم في الوطن، مَصوغاً بصوتِ وديع الصّافي الذي لا يمشي أَحدٌ قُدَّامَه إذا رَكِب، نشعر وكأنّ هذا الرَّجل يحمل دوماً في جيبه شيئاً من تراب لبنان يشمّه كلّما عبقَ في قلبه حنين. من هنا، أصبح الوطن في موهبة كرم حالةً تفجيريّة تعبّرُ عن الإنصهار بين كيان إنساني وإلهٍ غيرِ معروف.
الضَّيعة الطيِّبةُ الخَير مع مارون كرم إتّجاهٌ ذَوقي، لذا هي صالحة للبَعث والنُّهوض، يظلُّ في بابها وكأنها الدّينار المَنقوش، ويُوفي في وصفها ما شاء خيالُه من تغريدٍ على أغصان الوجدان. مارون من بَطانة الضيعة وَلوعٌ بوَصلِها، ما رُوِيَ من مائه إلاّ زادَه ذلك ظَمَأً، وهو شَرِهُ الوَجد بها فلو عَرضَتْ عليه النَّار لم يَتَّقِها. وهو إن شكا الزَّمان الذي لوَّح بإشارة نسيانها، غير أنّه شَهَّر بأسرار صَباحتها، وقَصَدها فنظر الى ما قَصَده نَظَرَ فقيرٍ إليه لا مُستَغنٍ عنه. لقد قدّم كرم معارضَ مختلفة عن الضَّيعة، من " عرزالنا الأخضر.." الى " التَلِّة والوادي..."، فحين نستعرضها نرى مَوادَّها معروفةً له مُستَانَسَة إليه بطول ما صادقها، فكأنّ وشاحَ غيوم الضّيعة يلفُّ خطوط قصائده.
الشِّعرُ زادُ مارون كرم في لحظات أنسه وظَهائر أسحاره، يَفيض رقَّة وعذوبة. وهو لا يجاهد طَبعَه ويُغالب قريحته، لذا يَعصى تحديد أين يقعُ الحُسنُ من غُرَرِ هذا المُبدِع، أفي اللّفظ، أم في الأسلوب أم في الرّوح. وهذه الغُرَر لا تغفلُها المَواطن الشائكة لأنها من وحي الفطرة، والفطرة ميزانٌ من أَدَقّ الأَحكام. لذلك كانت السجيّة لا الزَّخرفة هي الخَواص الفنيّة لألفاظ كرم وتعابيره، فلم يشترك في مطاردة المعاني إذ كان مَعينُ عقله مشبَّعاً ببديع الأفكار، يستطيعُ الإفصاح بالشِّعر الذي هو أسمى أنواع البَيان وأَرقّ فنون الجَمال. لكنّ الإفصاح الموفَّق هو الذي يتلاءم مع مقياس الذّوق، فلا يظهر الشِّعر غريباً أو بعيداً عمّا يجب أن يُقال، وفي هذا، كان طَبع كرم المفطور على تلوين خواطره، قادراً على استِهوائنا لاجتماع جودة المعنى وجَمال الأَداء في ما كان خاطرُه يُملي على يدِه.
كان مارون كرم دامع العين في سبيل الحبّ الذي رآه " أَحلام بتركض وَرَا أَحلام "، وذاق قلقَ الإشتياق ولوعة الفراق، ثَبَّتهما في ملاءمةٍ تروق وتُؤنسُ في سهولة وعذوبة. ولم يَفِض بهما كأسُ وجدانه وحَسب، بل سَما نَبضُه الى معانقة الخيال في أزكى الصُّوَر، حتى لَنرى في مَنظوم قوله نَشرَ الخُزامى ودارةَ القمر. وأَبلغُ المواقف الدَّامِعة في رسائل حُبّه، تلك التي يتوجّهُ بها الى قلبه مُتَخَلِّياً عنه، فأيُّ انتفاعٍ به إن جَفّت ضِفافُه من الحُبّ، فيقول: " شو عاد بَدّي فيك يا قلبي... كنت عوزَك كان عندي حُبّ، واليوم شو بْعوزَك بَلا حُبّي...".
إنّ شِعر مارون كرم الذي يَنضحُ صَبوةً استولى على عاشِقي المغنى، فوجدَت قصائدُه إليهم دربَ عدوى لا يمكن وصفها، لأنه قلَّ أن يخلو إنسان من هَوىً أو حسرة أو مُتَمَنّى، فالناس على جَديلة واحدة في هذه الحال. من هنا، كان كرم من طبقة الشعراء في أرفع مقامهم، لأنّ قصائده بيانات موسيقية يستَرخي في مَفاصلها الوجدان، لذا هي من الأَبرعِ في تسجيل العواطف والأحاسيس، وفي امتلاك القلوب والنفوس، وهذا يعود الى أنّ لغة الشِّعر المُمَوسَقَة هي الأَقدر على التأثير والإمتاع.
قبل مارون كرم، ربّما كانت مملكة الشِّعر الغنائي يغلبُها جندُها على أمرها، وملعباً لأنفاس الطارئين، فلما تولّى مارون كرم أمورها استقام حالُها، لذا كان يقتضي بالخَلَف أن يتبع آثار كرم فهي مصابيحُ تُعلَّقُ في أَسطُح العقول.