عيسى اسكندر المعلوف - من آثار عميد الضاد عبد الله يوركي حلاق
عيسى اسكندر المعلوف - من آثار عميد الضاد عبد الله يوركي حلاق
الضاد – منارة الأدب و العلوم و الفنون و الأجتماعيات – السنة 88 – كانون الثاني و شباط 2018
هنالك في زحلة وتحت أفياء "وادي العرائش" وعلى ضفاف الجداول المنسابة بخفة ودلال، رأيت الفن بأحلى معانيه، وعرفت التجديد باسمى مبانيه، ونشقت أرجا ً ناعما ً منعشا ً، يفتح أمام النفس الحالمة، آفاق الوجد والخيال.
وكثيرا ً ما كنا نتحلق حول "بحيرة الشعراء" أو نحيط "بالكوخ الأخضر" وغذاء نفسنا الشعر والوتر، ونفحات زكية من الأدب الحي.
وزحلة ذات البيوت القرمزية المتناثرة على ذينك السفحين المتقابلين، مأسدة الرجولة، ومدينة الراح والمرح واللهو البريء، ومباءة العتابا والميجانا والمعنى والطرب الرفيع، يقصدها أتباع الخيام، ويلتقي في ربوعها عشاق الحسن والفتون، ويحج اليها الشعراء والمتيمون، وتقام أسواق عكاظ، تحت ظلال واديها الزاهر الساحر، فيتبارى الموهوبون والملهمون، في الشدو والتغريد، وفي الوصف الأنيق الرقيق الجذاب.
ولقد أطرى زحلة ، أعلام القريض وأمراء البيان ، فغناها "شوقي" أغلى قوافيه، ومهرها "الخليل" بأروع خرائده، واستنزل "فوزي" وأخوه "شفيق المعلوف" أمسى فرائدهما ، وسار في مغانيها موكب الشعر مختالا ً فخورا ً. فالمدينة الجميلة، أنجبت الفحول، وأطلقت البلابل، وأطلعت في كل أفق قمرا ً نيرا ً، بدد غياهب الجهالة، وملأ الخواطر بأشعة العلم والعرفان.
وكل من يذكر "جارة الوادي" من حملة الأقلام، يذكر بملء الاجلال، عبقريتها وحامل لواء مجدها، عيسى اسكندر المعلوف، معلم الجيل السابق وأحد بناة صرح الانبعاث عندنا، وشيخ مؤرخي العرب في القرن العشرين، وحجة الأنساب الشرقية بين الناطقين بالضاد.
ولد عيسى المعلوف عام 1868 ومارس التعليم، ثم انصرف الى الصحافة و الأدب والتاريخ. والمطلعون على نشأة هذا العصر وتطور مقوماته، يعرفون جيدا ً، أن المعلوف، خدن اليازجي، ورفيق البستاني والريحاني وزيدان في جهادهم القومي والأدبي المشرف. فقد تضافرت الصفوة المختارة، على خدمة العلم، والنهوض بالأدب الى الذروة السامقة، وأرشدت الناشئين والمتأدبين، الى السبل القويمة والمبادىء السليمة، ونفخت في صدورهم، روح المعرفة والصبر على البحث والمطالعة، وعلمتهم محبة الوطن العربي والتعاون من أجل رفعته ووحدة شعوبه وأراضيه.
ولولا من عمل في هذا الحقل من اليازجيين والبستانيين والمعالفة ومن حذا حذوهم من الغيارى على لساننا الكريم، لما نهضت العربية من كبوتها، ولما بزغت شمس الرقي في آفاقنا الحبيبة، ولما ارتفع لمصر صوت مدو في عوالم الفن والثقافة والصحافة. فالأشعة الذهبية والوضاءة، أشرقت في القرن التاسع عشر، من قمم لبنان الاشم، ثم ما لبثت أن تلألأت في عاصمة وادي النيل، فكان اللبنانيون حملة هذا النور، ورسل ذلك الاشعاع الفكري الباهر.
واذا حق لمصر أن تعتز اليوم بما بلغته من سمو ً أدبي، فمن حق الجبل الملهم، أن يفاخر برجاله البررة الميامين، الذين كانوا أجنحة جبارة، رفعت القطر الشقيق، الى مراقي هذه الشهرة.
ولم يكن أبو فوزي، سوى أحد تلك الأجنحة المصفقة في سماء العبقرية والنبوغ. فالرجل الظامىء الى الاصلاح، والراغب في توطيد لغة الآباء والأجداد، والساعي بكل قواه، الى نشرها واظهار محاسنها ومفاتنها، أبى الا أن يضحي في سبيلها، بمتع الصبا، ولذائذ الشباب، مواقف الوله والحنين، فكان في ريق العمر، وبسمة الحياة، كالشيخ المسن، لا يبرح غرفته، ولا يفارق كتبه، ولا يرضى غير المحبرة واليراع والقرطاس، مؤنسا ً وعشيرا ً.
بمثل هذا الرجل وأمثاله من المخلصين الأوفياء، استعادت الضاد عهدها الذهبي، وتبوأت عرش الرفعة والكرامة. فقد كان أولئك الأقطاب الأفذاذ، يعلمون للعلم لا للكسب والشهرة، ويواصلون الدرس والتنقيب، بدافع أعماق نفوسهم. وشتان بين من يدفعه طبعه الى الجد والسعي والانتاج ، وبين من يدفعه المال أو حب الظهور.
وعندي، أن معظم خريجي الكليات والجامعات، على وفرة عددهم، وتنوع شهاداتهم، لم يفيدوا لغتنا معشار ما أفادتها تلك القافلة الراحلة من مواليد القرن الماضي. ومن كان في شك مما نقول، فلينظر الى ما وضعوه في صرح العربية، من أسس متينة، ودعائم وطيدة راسخة.
وكما شغل أبو الطيب المتنبي الناس، منذ ألف سنة ونيف، هكذا شغل أبو فوزي معاصريه، وأفعم قلوبهم دهشة واعجابا ً. فالشيخ الجليل خلق للعلم والعمل الحثيث المنتج، فكان منذ صباه يدرس الناشئة، ويصقل الأذهان، وينير العقول، ويهيب بالأفراد والجماعات الى ذرى الثقافة.
لم يكن ليضيع دقيقة واحدة من وقته، لاعتقاده أن الوقت من ذهب، وبايمانه الوثيق بأن ما فات لا يعود، وبأن عقربي الساعة لا يدوران من تلقاء نفسهما الى الوراء. والعاقل العاقل، من أفاد من زمنه، ومن زرع في حق اختصاصه، بزورا ً تنفع من يأتي بعده من عباد الله.
وقد زرع عيسى اسكندر المعلوف، في حقل نبوغه أجود البزور، وخلف لأم اللغات تراثا ً تباهي به، وأطلع في سماء الشعر الرفيع، ثلاثة كواكب غمرت أضواؤها آفاق الوطن والمهجر، وأثبتت لكبار أدباء الغرب، أن في شعرنا روعة وابداعا ً، وأن في تفكيرنا نضوجا ً واشراقا ً، وأن في بلادنا نبعا ً سخيا ً من المواهب لا ينضب، وجدة ً من الفنون الأصيلة لا تبلى.
والحق، أن ما قدمه الأستاذ المعلوف للغته وأمته ووطنه، لا يوفيه وصف، ولا يحيط به بيان. فقد عكف على خدمة التاريخ بنشاط عجيب، وعمل في دنيا الصحافة لاخلاص نادر وثاب، فأصدر مجلة "الآثار" وزين صفحاتها بمواضيع نفيسة، قل أن عالجها الباحثون والمحققون من قبل. فقد عرف شيخ مؤرخينا، كيف يمتلك ناصية الكتابة، وأدرك كيف يستطيع أن يخلب ألباب جيوش قرائه، وعشاق أدبه، فراح يطربهم بأعذب الشعر، وألطف النثر، وأثمن المباحث وأبقاها على الزمن.
ولا تنحصر مكانة المعلوف بهذه الناحية وحدها، ولكنها تتعداها الى نواح عديدة أخرى، أهمها ناحية الخلق والابداع والتفاني في تربية بنيه، واعدادهم لمستقبل باسم لماع.
وانه لمن النادر، أن ينبغ في بيت واحد، ثلاثة من أعاظم الشعراء، بيد أن ذلك العالم الصالح ، سكب في نفوس ثلاثة من أولاده، رحيق الأدب الأنيق الصافي، فاذا بهم يصدحون في خمائل الوحي والجمال، أحلى النغمات وأشجاها، واذا بقصائدهم المتسمة بطابع العاطفة المشبوبة، والاحساس المرهف، والتصوير الوجداني النقي، تنتزع صولجان التفوق، وتتربع على أرائك الزعامة.
ولو لم ينجب هذا الوالد غير فوزي وشفيق ورياض، لكفاه مجدا ً وسؤددا ً، فقد زاد هؤلاء الاخوان ثراء الأدب، ومهروا العروبة بالروائع المتألقة تألق الشمس. ومن يقرأ ملحمتي "على بساط الريح" و"شعلة العذاب" لفوزي، و"عبقر" لشفيق، ودواوين رياض في اللغات: العربية والفرنسية والبرتغالية، يدرك أي فضل أبداه الفقيد الغالي، وأي أثر أبقاه.
ولعل تاريخ العرب ، لم يعرف بعد أبي الفرج الأصبهاني مدون كتاب "الأغاني" كاتبا ً وقف حياته كلها على التأليف والتصنيف ونشر الذخائر والمفاخر، غير استاذنا المعلوف، فقد كان حركة دائمة لا تهدأ، ولا تمل صحبة القلم ومجالسة الكتاب.
وأتاح له هذا الدأب المستمر، أن ينتج من المقالات والمؤلفات والدواوين، ما يثير العجب، ويدعو الى التساؤل، أهذا انسان من لحم ودم أم هو آلة لا يدانيها الملل، ولا يدركها التعب والنصب؟
ولكن هذه الآلة البشرية، التي كتبت في كل موضوع، وأبدعت في كل فن، وجالت في كل حلبة أدبية، ما لبث أن أرهقها طول العمل، وتتابع السهر، فأخلدت الى الراحة، بعد جهاد عنيف، دام ثلثي قرن، أدت خلالهما رسالتها على أكمل وجه، وأتم قصد، وأشرف سبيل.
واني لأتمثل الآن، ذلك الراحل الفاضل، بين أهرام من مؤلفاته ومخطوطات خزانته، وفي يمينه قلم قصير، وفي شماله دفتر صغير، يدون فيه ما يسمعه من أمثال حلب، أو من نوادر العرب، أو من معلومات تتصل بأسر الشرق وأنسابها وسلالاتها والنوابغ المتحدرين من أصلاب رجالها وأرحام نسائها. وكلام الأستاذ المعلوف في الأنساب الشرقية، برهان لا يرد، ودليل لا يدحض، وما يبديه في هذا الصدد أمام المحاكم، يعد في قضايا الارث، ودعاوي التركات، فصل الخطاب، وختام النقاش.
وللمؤلف الجبار، عشرات المؤلفات المخطوطة والمطبوعة، وألوف المقالات المفيدة، غذى بها منذ سبعين سنة الى يوم وفاته، في 2 تموز 1956، أشهر الصحف العربية في الشرق والغرب، وفي الأميركتين: الشمالية والجنوبية . وفي مجلتي "الضاد والكلمة" الكثير الكثير من مقالاته وأبحاثه المفيدة . وبفضل كده وجده وسعة علمه وعلو همته انتخب عضوا ً في المجامع العلمية في سورية ولبنان ومصر والبرازيل.
كثيرا ً ما كنت أحج الى بيته الرحيب المطل على الطريق الرئيسي العريض المؤدي الى وادي العرائش، حيث لعب فوزي وشفيق ورياض، تحت غصونه الوارفة، وأفيائه الظليلة، وعلى مقربة من جداوله الهادرة، وشلالاته المعربدة الصاخبة. ولم يكن شيخنا الكريم يمر من ذلك الطريق، فقد كان يشجيه، ويبعث فيه ألوانا ً من الحزن والألم، تمثال ولده فوزي، المنتصب على شاطىء "البردوني" والمتجه بعينيه الجامدتين، الى مدخل الوادي الجميل، مدرج طفولته، ومهبط وحيه وفنه.
ومرة واحدة ً فقط، وقف الأب المفجوع، حيال تمثال فوزي، يستمع الى أخيه شفيق، يخاطب النصب البرونزي الصامت، بهذه الأبيات البليغة المنبعثة من كبد حرى ونفس دامية:
فوزي، وما لي في الخطوب يدان ما هكذا الأخوان يلتقيان
قربت صدري للعناق فلم أقع الا على قطع من الصوان
نصب خفضت له الجفون كأنما نصبت حجارته على أجفاني
وكان ذلك في 12 أيلول 1937، يوم احتفل لبنان وسان باولو معا ً بازاحة الستار عن تمثال عبقري القريض، وحامل لواء الابتكار فوزي المعلوف. وقد مثل كاتب هذا المقال، أدباء حلب في ذلك الحفل المهيب، كما مثلهم في المهرجان الكبير الذي أقامته زحلة بعد ظهر يوم الأحد 26 حزيران 1977، تخليدا ً لذكرى ابنها البار شاعر عبقر المغفور له شفيق المعلوف.