الأدب العربي - قضايا ونصوص - الدكتور حناف منصور
فوائد في صناعة الكتابة والنقد الأدبي
رسالة الى الكتاب
اما بعد - حفظكم الله، يا اهل صناعة الكتابة، وحاطكم، ووفقكم، وارشدكم! - فان الله ، عز وجل، جعل الناس، بعد الانبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين ، ومن بعد الملائكة المكرمين، اصنافا ً ، وان كانوا في الحقيقة سواء؛ وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات الى اسباب معاشهم وابواب ارزاقهم. فجعلكم معشر الكتاب، في اشرف الجهات، اهل الادب والمرؤات والعلم والرزانة؛ بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم امورها؛ وبنصائحكم يصلح الله لخلق سلطانهم ، ويعمر بلدانهم ؛ لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف الا منكم. فموقعكم من الملوك موقع آسماعهم التي بها يسمعون ، وابصارهم التي بها يبصرون، والسنتهم التي بها ينطقون، وايديهم التي بها يبطشون. فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما اضفاه من النعمة عليكم. وليس احد من اهل الصناعات كلها احوج الى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة، منكم، ايها الكتاب، اذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم. فان الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات اموره ان يكون حليما ً في موضع الحلم، فهيما ً في موضع الفهم، مقداما ً في موضع الاقدام، محجاما ً في موضع الاحجام، مؤثرا ً للعفاف والعدل والانصاف، كتوما ً للاسرار ، وفيا ً عند الشدائد ، عالما ً بما يأتي من النوازل ؛ يضع الامور مواضعها، والطوارق في اماكنها ؛ قد نظر في كل فن من فنون العلم فاحكمه ، وان لم يحكمه اخذ منه بمقدار من الحسن، وآحتال على صرفه عما يهواه من القبح بالطف حيلة واجمل وسيلة. وقد علمتم ان سائس البهيمة ، اذا كان بصيرا ً بسياستها، التمس معرفة اخلاقها ، فان كانت جموحا ً لم يهجها اذا ركبها ، وان كانت شبوبا ً آتقاها من قبل يديها ، وان خاف منها شرودا ً توقاها من ناحية رأسها ، وان كانت حرونا ً قمع برفق هواها في طرقها ، فان استمرت عطفها يسيرا ً فيسلس (4) له قيادها. وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم. والكاتب لفضل ادبه وشريف صنعته ، ولطيف حيلته ومعاملته لمن يجاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه، او يخاف سطوته، اولى بالرفق بصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة ، التي لا تحير جوابا ً ولا تعرف صوابا ً ولا تفهم خطابا ًالا بقدر ما يصيرها اليه صاحبها الراكب عليها.
الا، فارفقوا، رحمكم الله، في النظر، وأعملوا فيه ما امكنكم من الروية والفكر، تأمنوا باذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة، ويصير منكم الى الموافقة، وتصيرون منه الى المؤاخاة والشفقة،ان شاء الله تعالى.
ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه، وغير ذلك من فنون امره، قدر حقه. فانكم، مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم ، خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير؛ وحفظة لا تحتمل منكم افعال التضييع والتبذير. واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم؛ واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف، فانهما يعقبان الفقر، ويذلان الرقاب ويفضحان اهلهما ، ولا سيما الكتاب وارباب الآداب. وللامور اشباه، وبعضها دليل على بعض؛ فاستدلوا على مؤتنف اعمالكم بما سبقت اليه تجربتكم ، ثم اسلكوا من مسالك التدبير اوضحها محجة، واصدقها حجة ، واحمدها عاقبة. واعلموا ان للتدبير آفة متلفة ، وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن انفاذ علمه ورويته. فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه ؛ فان ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للشاغل عن اكثاره. وليضرع الى الله في صلة توفيقه وامداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وادبه. فانه ، ان ظن منكم ظان ، او قال قائل: ان الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته انما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره، فقد تعرض بظنه او مقالته الى ان يكله الله، عز وجل، الى نفسه، فيصير منها الى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف. ولا يقول احد منكم انه ابصر بالامور واحمل لعبء ما يكتفي به، يعرف بغريزة عقله وحسن ادبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه صدوره، فيعد لكل امر عدته واعتاده، ويهيء لكل وجه هيئته وعادته. فتنافسوا ، يا معشر الكتاب، في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين وابدؤا بعلم كتاب الله، عز وجل، والفرائض. ثم العربية فانها ثقاف ألسنتكم. ثم أجيدوا الخط، فانه حلية كتبكم، وارووا الاشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها وايام العرب والعجم واحاديثها وسيرها، فان ذلك معين لكم على ما تسمو اليه هممكم. ولا تضيعوا النظر في الحساب ، فانه قوام كتاب الخراج. وارغبوا بأنفسكم عن المطامع ، سنيها ودنيها، وسفساف الامور ومحاقرها ، فانها مذلة للرقاب، ومفسدة للكتاب. ونزهوا صناعتكم عن الدناءة، واربؤوا بانفسكم عن السعاية والنميمة ، وما فيه اصل الجهالات. واياكم والكبر والسخف والعظمة ، فانها عداوة مجتلبة من غير احنة وتحابوا في الله عز وجل، في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق لاهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم. وان نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع اليه حاله ويثوب اليه امره. وان اقعد احدا ً منكم الكبر عن مكسبه ولقاء اخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته ، وقديم معرفته. وليكن الرجل منكم، على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته اليه، أحوط منه على ولده واخيه؛ فان عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها الا الى صاحبه؛ وان عرضت مذمة فليحملها هو من دونه. وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال ، فان العيب اليكم ، معشر الكتاب ، اسرع منه الى القراء ، وهو لكم افسد منه لهم. فقد علمتم ان الرجل منكم اذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجب عليه ان يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير امره، ما هو جزاء لحقه؛ ويصدق ذلك تبعا ً له عند الحاجة اليه والاضطرار الى ما لديه. فاستشعروا ذلك، وفقكم الله، من انفسكم في حالة الرخاء والشدة، والحرمان والمؤاساة والاحسان، والسراء والضراء. فنعمت التسمية هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة. واذا ولي الرجل منكم، او صير اليه من امر خلق الله وعياله امر، فليراقب الله، عز وجل، وليؤثر طاعته، وليكن على الضعيف رفيقا ً، وللمظلوم منصفا ً، فان الخلق عيال الله، واحبهم اليه ارفقهم بعياله.
ثم ليكن بالعدل حاكما ً، وللأشراف مكرما ً، وللفيء موفرا ً ، وللبلاد عامرا ً، وللرعية وعن آذاهم منخلفا ً. وليكن في مجلسه متواضعا ً حليما ً، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا ً. واذا صحب احدكم رجلا ً فليختبر خلائقه، فاذا عرف حسنها وقبيحها اعانة على ما يوافقه التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته. فان اعقل الرجلين عند ذوي الالباب من رمى بالعجب وراء ظهره، ورأى ان صاحبه اعقل منه واجمل في طريقته. وعلى كل واحد من الفريقين ان يعرف فضل نعم الله، جل ثناؤة، من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه؛ ولا يكاثر على اخيه، او نظيره وصاحبه وعشيره.
وحمد الله واجب على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته، والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته. وانا اقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: من تلزمه النصيحة يلزمه العمل. وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه، بعد الذي فيه من ذكر الله، عز وجل؛ فلذلك جعلته آخره وتممته به. تولانا الله واياكم ، يا معشر الطلبة والكتبة، بما يتولى به من سبق علمه باسعاده وارشاده، فان ذلك اليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رسالة الى عضد الدولة يهنئه بمولودين
أطال الله بقاء الأمير الأجل عضد الدولة، وأدام عزه وتأييده، وعلوه وتمهيده، وبسطته وتوطيده، وظاهر له من كل خير مزيده، وهنأه ما احتظاه به على قرب الميلاد من توافر الأعداد، وتكثر الأمداد، وتثمر الأولاد، وأراه من النجابة من البنين والأسباط، ما أراه من الكرم في الآباء والأجداد، ولا أخلى عينه من قرة ، ونفسه من مسرة، ومتجدد نعمة ، ومستأنف مكرمة وزيادة في عدده، وفسح في أمده، حتى يبلغ غاية منهلة، ويستغرق نهاية أمله، ويستوفي ما بعد حسن ظنه. وعرفه الله السعادة فيما بشر عبده من طلوع بدرين هما انبعثا من نوره، واستنارا من دوره، وحفا بسريره، وجعل وفدهما متلائمين، ووردهما توءمين، بشيرين بتظاهر النعم، وتوافر القسم، ومؤذنين بترادف بنين، يجمعهم منخرق الفضاء، ويشرق بنورهم أفق العلاء، وينتهي بهم أمد النماء، الى غاية تفوت غاية الاحصاء. ولا زالت السبيل عامرة، والمناهل غامرة بصفائح صادرهم بالبشر،وآملهم بالنيل.
أدب المناظرات – القلقشندي
حلية الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والقلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أعز السيف وشرف القلم، وأفردهما برتب العلياء، فقرن لهما بين المجد والكرم، وساوى بينهما في القسمة، فهذا للحكم وهذا للحكم. أحمده على أن جمع بخير أمير بعد التفرق شملهما ، ووصل بأعز مليك بعد التقاطع حبلهما. وأرغب اليه بشكر يكاثر النجوم في عديدها ، ويكون للنعمة على ممر الزمان أبا يزيدها.
وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، شهادة يأتم الاخلاص بمذهبها، ولا ينجو من سيفها الا من أجاب داعيها وأقر بها ، وأن محمدا ً عبده ورسوله الذي خص بأشرف المناقب وأفضل المآثر، واستأثر بالسؤدد في الدارين ، فحاز أفخر المعالي ، ونال أعلى المفاخر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الاسلام، فسمت بهم على سائر الدول، وكرعت في دماء الكفر سيوفهم، فعادت بخلوق النصر لا بحمرة الخجل صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام، وتكل ألسنة الأقلام عن وصفها ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام.
وبعد، فانه ما تقارب اثنان في الرتبة الا تحاسدا ، ولا اجتمعا في مقام رفعة الا ازدحما على المجد وتواردا ، ورام كل منهما أن يكون الفائز بالقدح المعلى وأن يكون مفرقه هو المتوج وجيده هو المحلى، وادعى كل منهما أن جواده هو السابق في حلبة السباق، والفائز بقصب السبق بالاتفاق. وأن نجمه هو الطالع لا يأفل، وسؤدده هو الحاكم الذي لا يعزل، وأن المسك دون عبيره، والبحر لا يجىء نطفة في غديره، والدر لا يصلح صدفا، ونفيس الجوهر لا يعادله شرفا ً. وأن منابر المعالي موقوفة على قدمه، وكجامر المفاخر فائحة بنشر كرمه.
ولما كان السيف والقلم قد تدانيا في المجد وتقاربا، وأخذا بطر في الشرف وتجاذبا، اذ كانا قطبين تدور عليهما دوائر الكمال، وسعدين مجتمعان في دائرة الاعتدال، ونجمين يهديان الى المعالي، مصباحين يستضاء بهما في حنادس الليالي، وقاعدتين تبنى الدول على أركانهما، وشجرتين يجتنى العز من أغصانهما ، جر كل منهما ثوب الخيلاء فخرا ً، فمشى وتبختر، وأسبل رداء العجب تيها ً فما تخبل ولا تعثر، واتسع له المجال في الدعوى فجال، وطاوعته يد المقال فقال وطال، وتطرقت اليهما عقارب الشحناء ودبت، وتوقدت بينهما نار المنافسة وشبت، وأظهر كل منهما ما كان يخفيه فكتب وأملى، وباح بما يكنه صدره والمؤمن لا يكون حبلى
وبدأ القلم فتكلم، ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم. فقال: باسم الله تعالى أستفتح، وبحمده أتيمن وأستنجح، اذ من شأني الكتابة ومن فني الخطابة، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أجذم، وكل كلام لا يفتتح بحمده فأساسه غير محكم، ورداؤه غير معلم، والعاقل من أتى الأمر من فصه، وأخذ الحديث بنصه، والحق أحق أن يتبع، والباطل أجدر أن يترك فلا يصغى اليه ولا يستمع، اني لأول مخلوق بالنص الثابت والحجة القاطعة، والمستحق لفضل السبق من غير منازعة، أقسم الله تعالى بي في كتابه، وشرفني بالذكر في كلامه لرسوله وخطابه، فقال جل من قائل:"ن والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون". وقال جلت قدرته: "أقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الأنسان ما لم يعلم"، فكان لي من الفضل وافر القسمة، وخصصت بكمال المعرفة، فجمعت شوارد العلوم وكنت قيم الحكمة.
فقال السيف: باسم الله والله أكبر، نصر من الله وفتح قريب. لكل باغ مصرع. وللصائل بالعدوان مهلك، لا ينجو منه ولا ينجع، وفاتح باب الشر يغلق به، وقادح زند الحرب يحرق بلهبه. أقول بموجب استدلالك وأوجب الاعتراض عليك في مقالك: نعم أقسم الله تعالى بالقلم ولست بذلك، وكان أول مخلوق ولست المعنى بما هنالك، ان ذلك لمعنى يكل فهمك عن ادراكه، ويضل نجمك أن يسري في أفلاكه، وأنت وان ذكرت في التنزيل، وتمسكت من الامتنان بك في قوله: "علم بالقلم". بشبهة التفضيل، فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله، وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يؤسى على فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله، وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يوسى على فوته ويسر بحصوله. لكني قد نلت من هذه الرتبة أسنى المقاصد، فشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد، وحلاني من كفه شرفا ً لا يزول حليه أبدا ً، وقمت بنصره في كل معترك، وسل حنينا ً، وسل بدرا ً، وسل أحدا ً. ذكر الله تعالى في القرآن جنسي الذي أنا نوعه الأكبر، ونبه على ما فيه من المنافع التي هي من نفعك أعم وأشهر. وما اجتمع فيه من عظيمي الشدة والبأس، فقال تعالى: "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس" على أنك لو اعتبرت جنسي القصب والحديد، وعرفت الكليل منهما والجليد. لتحققت تسلط الحديد عليك قطا ً وبريا ً، وتحكمه فيك أمرا ً ونهيا ً.
فقال القلم: فررت من الشريعة وعدلها، وعولت على الطبيعة وجهلها، فافتخرت بحيفك وعدوانك، واعتمدت في الفضل على تعديك وطغيانك. فملت الى الظلم الذي هو اليك أقرب، وغلب عليك طبعك في الجور والطبع أغلب، فلا فتنة الا وأنت أساسها،ولا غارة الا وأنت رأسها، ولا شر الا وأنت فاتح بابه، ولا حرب الا وأنت واصل أسبابه، تؤكد مواقع الجفاء، وتكدر أوقات الصفاء، وتؤثر القساوة، وتؤثر العداوة. أما أنا فالحق مذهبي، والصدق مركبي، والعدل شيمتي، وحلية الفضل زينتي، ان حكمت أقسطت، وان استحفظت حفظت وما فرطت، لا أفشي سرا ً يريد صاحبه كتمه، ولا أكتم علما ً يبتغي متعلمه علمه. مع عموم الحاجة الي، والافتقار الى علمي، والاكتساب مما لدي. أدير في القرطاس كاسات خمري فأزري بالمزامير وأهزأ بالمزاهر. وأنفث فيه سحر بياني، فألعب بالألباب، وأستجلب الخواطر، وأنفذ جيوش سطوري على بعد فأهزم العساكر، فلكم يفل الجيش وهو عرمرم، والبيض ما سلت من الأغماد.
فقال السيف: أطلت الغيبة، وجئت بالخيبة، وسكت ألفا، ونطقت خلفا :
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
ان نجادي لحلية للعواتق، ومصاحبتي أمنة من البوائق، ما تقلدني عاتق الا بات عزيزا ً، ولا توسدني ساعد الا كنت له حرزا ً حريزا ً. أمري المطاع، وقولي المستمع، ورأيي المصوب، وحكمي المتبع، لم أزل للنصر مفتاحا ً، وللظلام مصباحا ً، وللعز قائدا ً، وللعداة ذائدا ً، فاني لك بمساجلتي، ومقاومتي في الفخر ومنافرتي، مع عري جسمك ونحافة بدنك، واسراع تلفك وقصر زمنك، وبخس أثمانك على بعد وطنك، وما أنت عليه من جري دمعك، وضيق ذرعك، وتفرق جمعك، وقصر باعك، وقلة أتباعك.
فقال القلم: مهلا أيها المساجل، وعلى رسلك أيها المغالب والمناضل، لقد أفحشت مقالا، ونمقت محالا، فغادرتك سبل الاصابة وخرجت عن جادة الانابة، وسؤت سمعا ً فأسأت اجابة، اني لمبارك الطلعة وسيمها، شريف النفس كريمها، آخذ بالفضائل من جميع جهاتها، مستوف للمدائح بسائر صفاتها، فطائري ميمون، وغولي مأمون، وعطائي غير ممنون. أصل وتقطع، وأعطي وتمنع، وتفرق وأجمع، وان ازدراءك بي من الكبر المنهي عنه، وغضط مني من العجب المستعاذ منه. ومن حقر شيئا ً قتله، ومن استهان بفاضل فضله، واني وان صغر جرمي فاني لكبير الفعال، وان نحف بدني فاني لشديد البأس عند النزال، وان عري جسمي فكم كسوت عاريا، وان جرى دمعي فكم أرويت ظاميا ً، وان ضاق ذرعي فاني بسعة المجال مشهور، وان قصر باعي فكم أطلقت أسيرا ً وأنا في سجن الدواة مأسور، اذا امتطيت طرسي، وتدرعت تقسي، وتقلدت خمسي، وجاشت على الأعداء نفسي:
رأيت جليلا ً شأنه وهو مرهف ضنى وسمينا ً خطبه وهو ناحل
أنسيت اذ أنت في المعدن تراب تداس بالأقدام، وتنسفك الرياح وتزري بك الأيام. ثم صرت الى القين تقعد لك السنادين بالمراصد، وتدمغك المقامع وتسطو بك المبارد. ثم لولا صقالك لأذهبك الجرب، وأكلك الصدى، مع قلة صبرك على المطر والندى.
فقال السيف: انا لله! لقد استأسدت الثعالب، واستنسرت البغاث، فعد العصفور نفسه من طير الواجب، وجاء الغراب الى البازي يهدده، ورجع ابن آوى على الأسد يشرده، فلو عرفت قدر نفسك، ولزمت في السكينة طريق أبناء جنسك، ووقفت عند ما حد لك، وذكرت عجزك وكسلك، لكان أجدر بك، وأحمد لعاقبتك، وأليق بأدبك. ان الملوك لتعدني لمهماتها وتستنجدني في ملماتها، وتتعالى في نسبي، وتتغالى في حسبي، وتتنافس في قنيتي وتتحاسد، وتجعلني عرضة ً لأيمانها فتتعاقد بالحلف علي وتتعاهد، وتدخرني في خزائنها ادخارالأعلاق، وتعدني أنفس ذخائرها على الاطلاق. فتكللني الجواهر وتحليني النقود، فأظهر في أحسن المظاهر. أرز للشجعان خدي الأسيل فأنسيهم الخدود ذوات السوالف، وأزهو بقدي فأسلبهم هيف القدود مع لين المعاطف، وأوهم الظمآن من قرب أن بأنهاري ماء يسيل، وأخيل للمقرور أني جذوة نار فيطلبني على المدى الطويل. ويخالني متوقع الغيث برقا ً لامعا ً، ويظنني الجائزفي الشرق نجما ً طالعا ً، فالشمس من شعاعي في خجل، والليل من ضوئي في وجل. وما أسرعت في طلب ثأر الا قيل فات ما ذبح وسبق السيف العذل.
فقال القلم: برق لمن لاعرفك. وروج على غير الجوهري صدفك. فما أنت من بزي ولا عطري. ولست بمساو حدك القاطع بقلامة ظفري، ان برقك لخلب، وان ريحك لأريب، وان ماءك لجامد، وان نارك لخامد، ومن ادعى ما ليس له فقد باء بالفجور، ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور.
من قال ان النجم أكبرها سنها بغير دليل كذبته ذكاء
أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، وكريمها المبجل، وعالمها المهذب. يختلف حالي في الأفعال السنية باختلاف الأعراض وأمشي مع المقاصد الشريفة بحسب الأغراض، وأتزيا بكل زي جميل، فأنزل في كل حي وأسير في كل قبيل. فتارة ً أرى اماما عالما، وتارة لدر الكلام ناثرا ً وأخرى لعقود الشعر ناظما ً، وطورا ً تلفيني جوادا ً سابقا ً، ومرة تجدني رمحا ً طاعنا وسهما ً راشقا ً، وآونة تخالني نجما ً مشرقا ً، وحينا ً تحسبني أفعوانا مطرقا قد فقت الشبابة في الطرب، وبرزت عليها في كل معنى وان جمع بيننا جنس القصب. فكانت للأغاني وكنت للمعاني وجاءت بغريب النغم، وجئت ببديع الحكم. ولعبت بالأسماع طربا، ولعت بالألباب فاتخذت لدهرها مما عزاها عجبا .
فقال السيف: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا ً، وطلبت التكثر فازددت قلة ً وعدت خاسيا ً. فكنت كطالب الصيد في عريسة الأسد ان لقيه أهلكه، وخالفت النص فألقيت بيدك الى التهلكة. فاقنع من الغنيمة بالاياب، وعد الهزيمة مع السلامة من أربح الأكساب، فلست ممن يشق غباري، ولا يقابل في الهيجاء ضرمي، ولا يصطلي بناري، فكم من بطل أبطلت حراكه، وكم من شجاع عجلت هلاكه، وكم من صنديد أرقت دمه، وكم ثابت الجأش زلزلت قدمه
وأراد القلم أن يأخذ في الكلام ويرجع الى الجدال والخصام فغلب عليه رقة طبعه وحسن موارده، وسلاسة قياده، وجميل مقاصده. فمال الى الصلح وجنح الى السلم، وأعرض عن الجهل وتمسك بالحلم. وأقبل على السيف بقلب صاف. ولسان رطب غير جاف ، فقال: قد طالت بيننا المجادلة وكثرت المراجعة والمقاولة. مع ما بيننا من قرابة الشرف. وأخذ كل منا من الفضل بطرف. فنحن في الكرم شقيقان، وفي المجد رفيقان. لا يستقل أحدنا بنفسه. ولا يأنس بغير صاحبه وان كان من غير جنسه. وقد حلبت الدهر أشطره، وعلمت أصفاه وأكدره، وقلبته ظهرا ً وبطنا ً ، وجبت فيافيه سهلا ً وحزنا ً وان معاداة الرفيق، ومباينة الشقيق، وتوجب شماتة العدو ، وتغم الصديق. فهل لك أن تعقد للصلح عقدا ً لا يتعدى حده، ولا يحل على طوال الزمان عقده لنكون أبدا ً متآلفين، وعلى السراء والضراء متصاحبين، حتى لا يضرب بنديمي جزيمة مع اصطحابنا مثل، ولا يتشبه بنا الفرقدان الا باباء الخطل:
ولست بمستبق أخا ً لا تلمه على شعت أي الرجال
فقال السيف: لقد رأيت صوابا ً، ورفعت عن وجه المحجة نقابا ً، وسريت أحسن مسرى، وسرت أجمل سير، وصحبك التوفيق فأشرت بالصلح والصلح خير.
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
ثم قالا: لا بد من حكم يكون الصلح على يديه، وحاكم نرجع في ذلك اليه، لنحظى بزيادة الشرف. ونظفر من كمال الرفعة بغرف من فوقها غرف. ولسنا بفائزين بطلبتنا، وظافرين ببغيتنا، الا لدى السيد الأكمل، والمالك الأفضل الماجد السري، والبطل الكمي، والبحر الخضم، والغيث الأعم، مولى المعالي ومولى النعم، وممتطي جواد العز ورافع أعلام الكرم. جامع أشتات الفضائل ومالك زمامها، وضابط أمر الدولة الظاهرية وحافظ نظامها المقر الكريم، العالي المولوي الزيني أبي يزيد الداودار الظاهري، ضاعف الله تعالى حسناته المتكاثرة، وزاده رفعة في الدارين ليجمع له في الارتقاء بين منازل الدنيا والآخرة، فهو قطب المملكة الذي عليه تدور، وفارسها الأروع وأسدها الهصور، بطلها السميدع وليثها الشهير، وأبو عذرتها حقا ً من غير نكر وابن بجدتها الساقطة منه على الخيبر، ومعقلها الأمنع، وحرزها الحصين، وعقدها الأنفس، وجوهرها الثمين. وتلادها العليم بأحوالها ، والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها ، وترجمانها المتكلم بلسانها ، وعالمها المتفنن في أفنانها ، وطبيبها العارف بطبها ، ومنجدها الكاشف لكربها. هذا وانه لمالك أمرنا ورافع قدرنا، والصائل منا بالحدين ، والجامع منا بين الضدين ، فلو لقيه فارس عبس لولى عابسا ً، أو طرق حمى كليب لبات من حماة أيسا ً، أو قارعه ربيعة بن مكدم لعلا بالسيف مفرقه ، أو نازله بسطام لبدد جمعه وفرقه، كما أنه لو قرن خطه بنفيس الجواهر لغلاه قيمة، أو قاسمه ابن مقلة في الكتابة لما رضي أن يكون قسيمة، أو فاخره ابن هلال لرأى أنه سبقه الى كل كريمة. وبالجملة فعزه الظاهر وفضله الأكمل، وسماكه الرامح وسماك غيره الأعزل، فلا يسمح الزمان أن يأتي له بنظير، ولا أراد مدع بلوغ شأوه الا قيل اتئد فلقد حاولت الانتهاض بجناح كسير:
فحي هلا ً بالمكرمات وبالعلا وحي هلا ً بالفضل والسؤدد المحض
فالحمد لله الذي جمعنا بأكرم محل وأفضل، وأحسن مقام وأجمل، فهلم اليه يعقد بيننا عقد الصلح، ونبايعه على ملازمة الخدمة والنصح، ثم لم يلبثا أن كتبا بينهما كتاب الصلح والمصافاة، وتعاهدا على الود والموافاة. وأعلن بعقد الصلح مناديهما ، وحدا بذكر التعاضد والتناصر حاديهما وراح ينشد:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي وأذاعته ألسن الحساد
وزالت عنهما الأحقاد والاحن، وباتا في أعز مكان وأشرف وطن، ثلث قرانهما فأسعد، ثم قام منشدهما، فأنشد:
لا تنكر الصلح بين السيف والقلم فعاقد الصلح عالي القدر والهمم
أبو يزيد نظام الملك مالكنا وواصل العلم في علياه بالعلم
فهو المراد بما أبديه من مدح وغاية القصد من ترتيب ذا الكلم
وان جرى مدح سيف أو علا قلم فذاك وصف لما قد حاز من كرم
خطاب الأيام
"حرس الله نعمة مولاي، ولا زال ملم السعد من اسمه وفعله وحرف قلمه يأتلف، منادى جوده لا يرخم وأحمد عيشه لا ينصرف، ولا عدم مستوصل الرزق من يراعته التي لا تقف الوصل ولا عدمت نحاة الجود من نواله كل موزون ومعدود، ومن فضله وظله كل قصور وممدود، وما خاطبت الأيام ملتمسة الا بلام التوكيد ولا عدوة الا بلام الجحود".
بين أبي تمام والبحتري
قال أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيي الآمدي:
هذا ما حثثت - أدام الله لك العز والتأييد، والتوفيق والتسديد - على تقديمه من الموازنة بين أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وأبي عبادة الوليد بن عبد الله البحتري في شعريهما، وقد رسمت من ذلك ما أرجو أن يكون الله عز وجل قد وهب فيه السلامة وأحسن في اعتماد الحق وتجنب الهوى.
فوجدت أطال الله عمرك، أكثر من شاهد له، ورأيت رواة الأشعار المتأخرين يزعمون أن شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي لا يتعلق بجيده جيد مثاله، وردية مطروح ومرذول، فلهذا كان مختلفا ً لا يتشابه. وأن شعر الوليد بن عبيد الله البحتري صحيح السبك، حسن الديباج، ليس فيه سفساف ولا ردي ولا مطروح، ولهذا صار مستويا ً يشبه بعضه بعضا ً. ووجدتهم فاضلوا بينهما لغزارة شعريهما، وكثرة جيدهما وبدائعهما. لم يتفقوا على أيهما أشعر، كما لم يتفقوا على أحد ممن وقع التفضيل بينهم من شعراء الجاهلية والاسلام والمتأخرين.
وذلك كمن فضل البحتري ونسبه الى حلاوة النفس وحسن التخلص ووضع الكلام في مواضعه وصحة العبارة وقرب المآتي وانكشاف المعاني، وهم الكتاب والأعراب، والشعرء المطبوعون وأهل البلاغة. ومثل من فضل أبا تمتم ونسبه الى غموض المعاني ودقتها وكثرة ما يورده مما يحتاج الى استنباط وشرح وهؤلاء أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصنعة ومن يميل الى التدقيق وفلسفي: الكلام. وان كان كثير من الناس قد جعلهما طبقة ً. وذهب قوم الى المساواة بينهما، فانهما لمختلفان ؛ لأن البحتري أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل ، وما فارق عماد الشعر المعروف. وكان يتجنب التعقيد، ومستكره الالفاظ ووحشي الكلام، فهو بأن يقاس بآشجع السلمي وأمثاله من المطبوعين أولى.ولأن أبا تمام شديد التكلف صاحب صنعة، مستكره الألفاظ والمعاني ، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعمارات البعيدة والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه. وعلى أني لا أجد من أقرنه به، لأنه ينحط عن درجة مسلم ، لسلامة شعر مسلم وحسن سبكه وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب وسلك هذا الأسلوب ، لكثرة محاسنة وبدائعه واختراعاته. ولست أحب أن أطلق القول بأيهما أشعر عندي ، لتباين الناس في العلم، واختلاف مذاهبهم في الشعر.
ولا أرى لأحد أن يفعل ذلك فيستهدف لذم أحد الفريقين ؛ لأن الناس لم يتفقوا على أي الأربعة أشعر، في : امرىء القيس ، والنابغة ، وزهير ، والأعشى ، ولا في جرير والفرزدق والأخطل ، ولا في بشار ومروان ، ولا في أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم؛ لاختلاف آراء الناس في الشعر وتباين مذاهبهم فيه.
فان كنت - أدام الله سلامتك - ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري أشعر عندك ضرورة. وان كنت تميل الى الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة ، ولا تلوى على غير ذلك ، فأبو تمام عندك أشعر لا محالة.
فأما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما ، في الوزن والقافية، وبين معنى ومعنى فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة وفي ذلك المعنى ، ثم احكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما اذا أحطت علما ً بالجيد والرديء.
وأنا أبتدىء بما سمعته من احتجاج كل فرقة من أصحاب هذين االشاعرين على الفرقة الأخرى عند تخاصمهم في تفضيل أحدهما على الآخر ، وما ينعاه بعض على بعض ، لتتأمل ذلك وتزداد بصيرة وقوة ً في حكمك ان شئت أن يحكم ، واعتقادا ً فيما لعلك تعتقد احتجاج الخصمين به.
قال صاحب أبي تمام : كيف يجوز لقائل أن يقول : ان البحتري أشعر من أبي تمام ، وعن أبي تمام أخذ ، وعلى حذوه احتذى ، ومن معانيه أستقى وباراه ، حتى قيل : الطائي الأكبر والطائي الأصغر.
واعترف البحتري أن جيد أبي تمام خير من جيده ، على كثرة جيد أبي تمام ، فهو بهذه الخصال أن يكون أشعر من البحتري أولى من أن يكون البحتري أشعر منه.
قال صاحب البحتري: أما الصحبة فما صحبه ولا تلمذ له روى ذلك أحد عنه ولا نقله، ولا أرى قط أنه محتاج اليه. ودليل هذا الخبر المستفيض من اجتماعهما وتعارفهما عند أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري ، وقد دخل اليه البحتري بقصيدته التي أولها:
أافاق صب من هوى فأفيقا
وأبو تمام حاضر. فلما أنشدها علق أبو تمام أبياتا ً كثيرة منها. فلما فرغ من الانشاد أقبل أبو تمام على محمد بن يوسف فقال: أيها الأمير، ما ظننت أن أحدا ً يقدم على أن يسرق شعري وينشده بحضرتي حتى اليوم ثم آندفع ينشد ما حفظه حتى أتى على أبيات كثيرة من القصيدة ، فبهت البحتري ورأى أبو تمام الانكار في وجه أبي سعيد محمد بن يوسف، فحينئذ قال له أبو تمام: أيها الأمير، والله ما الشعر الا له انه أحسن فيه الاحسان كله وأقبل يقرظه ويصف معانيه ويذكر محاسنه، ثم جعل يفخر باليمن وأنهم ينبوع الشعر. ولم يقنع من محمد بن يوسف حتى أضعف له الجائزة.
فهذا الخبر يبطل ما آدعيتم ، اذ كان من يقول هذه القصيدة التي هي عين شعره وفاخر كلامه ، وهو لا يعرف أبا تمام الا أن يكون بالخبر ، يستغني عن أن يصحبه أو يتتلمذ له أو لغيره في الشعر.
وقد أخبرني أنا رجل من أهل الجزيرة ويكنى أبا الوضاح ، وكان عالما ً بشعر أبي تمام والبحتري وأخبارهما أن القصيدة التي سمع أبو تمام من البحتري عند محمد بن يوسف، وكان اجتماعهما وتعارفهما ، القصيدة التي أولها:
فيم ابتداركم الملام ولوعا
وانه لما بلغ الى قوله فيها:
في معرك ضنك تخال به القنا بين الضلوع اذا انحنين ضلوعا
نهض اليه أبو تمام فقبل بين عينيه سرورا ً به ؛ ثمم قال: أبى الله الا أن يكون الشعر يمينا ً.
قال صاحب البحتري: الا أنه مع هذا لا ينكر أن يكون قد استعار بعض معاني أبي تمام، لقرب البلدين وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعر أبي تمام، فيعلق شيئا ً من معانيه معتمدا ً للأخذ، أو غير معتمد. وليس ذلك بمانع من أن يكون البحتري أشعر منه، فهذا كثير قد أخذ من جميل وتلمذ له واستقى من معانيه، فما رأينا أن أحدا ً أطلق على كثير أن جميلا ً أشعر منه، بل هو عند أهل العلم بالشعر والرواية أشعر من جميل. وهذا ابن سلام الجمحي ذكره في كتاب الطبقات في الطبقة الثانية من شعراء الاسلام وجعله مع البعيث والقطامي، وذكر أنه عند أهل الحجاز خاصة أشعر من جرير والفرزدق والأخطل؛ وجعل جميلا ً في الطبقةالسادسة مع عبيد الله بن قيس الرقيات والأحوص ونصيب، الا أنه قال ان جميلا ً يتقدمه في النسيب. وهذا غير مقبول منه، لأنه انما يحكيه عن نفسه. وأهل الحجاز انما قدموا كثيرا ً من أجل نسيبه وحسن تصرفه فيه.
وحكي عن جرير أنه قال في بعض الروايات: كثير أنسبنا. ويدل على تقدمه في النسيب قول أبي تمام في قصيدة يمدح بها أبا سعيد الكاتب، اولها:
من سجايا الطلول أللا تجيبا
لو يفاجي ركن المديح كثيرا ً بمعانيه خالهن نسيبا
طاب فيه المديح والتد حتى فاق وصف الديار والتشبيبا
أراد أن كثير لو فاجأه هذا المديح على حسن نسيبه لخاله نسيبا. وخص كثيرا ً لشهرته بالنسيب وبراعته، واحتمل ضرورة ورد كثيرا ً الى التكبير فقال: كثيرا ً ولم يقل جميلا ً ولا جريرا ً ولا غيرهما مما لا ضرورة في آسمه. وعلى أن كثيرا ً ذكر اسمه مكبرا ً اما ضرورة واما اعتمادا ً لتفخيم آسمه وألا يأتي به محقرا ً، فقال:
وقالي الواشون ويحك انها بغيرك حقا ً يا كثير تهيم
وقد ذكر أبو تمام "كثيرا ً" في مواضع أخر، فجاء مكبرا ً في قصيدة يمدح بها الحسن بن وهب ويصفه بالبلاغة، وهو قوله:
لكأن قسا في عكاظ يخطب وكثير عزة يوم بين ينسب
وذلك لعلم أبي تمام بتقدم كثير في النسيب على غيره وشهرته بالتجديد فيه، على أن جميلا ً لا شعر له مما يعتد به الا في النسيب والغزل.
فقد علمتم الآن أن هذه حالة لا توجب لكم تفضيل أبي تمام على البحتري من أجل أنه أخذ شيئا ً، من معانية.
وأما قول البحتري: جيده خير من جيدي، ورديي خير من ردية فهذا الخبر ان كان صحيحا ً، فهو للبحتري لا عليه ؛ لأن قول هذا يدل على أن شعر أبي تمام شديد الاختلاف، وشعره شديد الاستواء. فالمستوي الشعر أولى بالتقدمة من المختلف الشعر وقد اجتمعنا نحن وأنتم على أن أبا تمام يعلو علوا ً حسنا ً وينحط انحطاطا ً قبيحا ً، وأن البحتري يعلو بتوسطه ولا يسقط ، ومن لا يسقط ولا يسف أفضل ممن يسقط ويسف ، والذي نرويه عن أبي تمام على محمد بن العلاء السجستاني ، وكان صديق البحتري ، أنه قال: سئل البحتري عن نفسه وعن أبي تمام فقال: هو أغوص عن المعاني وأنا أقوم بعمود الشعر. وهذا الخبر هو الذي يعرفه الشاميون دون غيرهم.
وسمعت أبا علي محمد بن العلاء أيضا ً يقول: كان البحتري عند نفسه أسعر من أبي تمام وسائر الشعراء المحدثين.
وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتابه الذي ذكر فيه أخبار الشعراء نحوا ً من ذلك.
قال أبو علي محمد بن العلاء: كان البحتري اذا شرب وأنس أنشد شعره وقال: ألا تسمعون ! ألا تعجبون!
قال: وكان مع هذا أحسن الناس أدب نفس، لا يذكر شاعر محسن الا قرظه ومدحه وذكر أحسن ما فيه.
قال أبو علي: ولم لا يفعل وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر، وذهب بخيرهم وانفرد بأخذ جوائز الخلفاء والملوك دونهم.
وكذلك كان أبو علي دعبل بن علي الخزاعي يهجو الملوك والخلفاء ولا يعرض لشاعرهم الا ضرورة. وقد حذر أول كتابه الذي ألفه في الشعراء من التعرض للشاعر ولو كان من أدون الناس صنعة في الشعر ، وقال: رب بيت جرى على لسان مفحم قيل فيه: رب رمية من غير رام ، فسارت به الركبان . ولذلك يقول في بعض شعره:
لا تعرضن بمزح لامرىء طبن ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية مشئومة لم يرد انماؤها نمت
أخبار الشعراء
حدث ابو عبيدة، قال: كان برد ، ابو بشار ، طيانا ً حاذقا ً بالتطيين . وولد له بشار، وهو اعمى. فكان يقول: "ما رأيت مولودا ً أعظم بركة ً منه ! ولقد ولد لي ، وما عندي درهم ، فما حال الحول حتى جمعت مائتي درهم." ولم يمت برد ، حتى قال بشار الشعر. وكان لبشار اخوان يقال لاحدهما بشر، وللآخر بشير. وكانا قصابين. وكان بشار بارا ً بهما. على انه كان ضيق الصدر، متبرما ً بالناس. فكان يقول: "اللهم! اني كنت قد تبرمت بنفسي وبالناس جميعا ً. اللهم! فارحمني منهم." وكان اخوته يستعيرون ثيابه، فيوسخونها وينتنون ريحها. فاتخذ قميصا ً له جيبان ، وحلف ان لا يعيرهم ثوبا ً من ثيابه. فكانوا يأخذونها بغير اذنه. فاذا دعا بثوبه فلبسه. فنكر رائحته، فيقول، اذا وجد رائحة كريهة من ثوبه: " اينما اتوجه، الق سعدا ً" فاذا اعياه الامر، خرج الى الناس في تلك الثياب، على نتنها ووسخها، فيقال له: "ما هذا ، يا ابا معاذ؟ " فيقول: "هذه ثمرة صلة الرحم"
(قال) وكان يقول الشعر، وهو صغير. فاذا هجا قوما ً، جاؤوا الى أبيه، فشكوه، فيضربه ضربا ً شديدا ً. فكانت امه تقول: "كم تضرب هذا الصبي الضرير! اما ترحمه؟" فيقول: "بلى، والله، اني لارحمه. ولكنه يتعرض للناس فيشكونه الي." فسمعه بشار، فطمع فيه، فقال له: "يا ابت، ان هذا الذي يشكونه مني اليك هو قول الشعر؛ واني، ان ألممت عليه، اغنيتك وسائر اهلي. فان شكوني اليك، فقل لهم: "اليس الله يقول: ليس على الاعمى حرج!" فلما عاودوه شكواه، قال لهم برد ما قاله بشار. فانصرفوا، وهم يقولون: "فقه برد اغيظ لنا من شعر بشار."
وحدث محمد بن الحجاج، قال: كنا مع بشار، فاتاه رجل، فسأله عن منزل رجل ذكره. فجعل يفهمه، ولا يفهم. فاخذ بيده، وقام يقومه الى منزل الرجل، وهو يقول:
اعمى يقود بصيرا ً ، لا ابا لكم! قد ضل من كانت العميان تهديه!.
حتى صار به الى منزل الرجل؛ ثم قال له: "هذا هو منزله، يا اعمى!"
حدث علي بن محمد النوفلي عن ابيه، قال: خرج بشار الى المهدي، ويعقوب بن داود وزيره، فمدحه، ومدح يعقوب. فلم يحفل به يعقوب، ولم يعطه شيئا ً. ومر يعقوب ببشار يريد منزله، فصاح به بشار: طال الثواء على رسوم المنزل!
فقال يعقوب: فاذا تشاء، ابا معاذ، فارحل!
فغضب بشار وقال يهجوه:
بني أمية، هبوا! طال نومكم! ان الخليفة يعقوب بن داود!
ضاعت خلافتكم، يا قوم، فالتمسوا خليفة الله بين الزق والعود!
(قال النوفلي) فلما طالت ايام بشار على باب يعقوب دخل عليه. وكان من عادة بشار، اذا أراد ان ينشد او يتكلم، ان يتفل عن يمينه وشماله، ويصفق باحدى يديه على الأخرى؛ ففعل ذلك وانشد:
يعقوب، قد ورد العفاة، عشية ً، متعرضين لسيبك المنتاب
فسقيتهم، وحسبتني كمونة ً نبتت لزراعها بغير شراب
مهلا ً لديك! فانني ريحانة، فاشمم بانفك، واسقها بذناب
طال الثواء على تنظر حاجة شمطت لديك، فمر لها نخضاب
تعطي الغزيرة درها؛ فاذا ابت، كانت ملامتها على الحلاب
(قال) فلم يعطف ذلك يعقوب عليه، وحرمه. فانصرف الى البصرة مغضبا ً. فلما قدم المهدي البصرة، اعطي عطايا كثيرة ووصل الشعراء. وذلك كله على يدي يعقوب. فلم يعط بشارا ً شيئا ً من ذلك. فجاء بشار الى حلقة يونس النحوي. فقال: "هل ههنا أحد يحتشم؟ " قالوا له: "لا." فانشد بيتا ً يهجو فيه المهدي. فسعى به اهل الحلقة الى يعقوب.
فدخل يعقوب على المهدي، فقال له: "يا امير المؤمنين، ان هذا الاعمى.، الملحد، الزنديق ، قد هجاك." فقال: "باي شيء؟" فقال: "بما لا ينطق به لساني، ولا يتوهمه فكري." قال له: "بحياتي ، الا انشدتني! " فقال : "والله ، لو خيرتني بين انشادي اياه وبين ضرب عنقي ، لاخترت ضرب عنقي." فحلف عليه المهدي بالايمان التي لا فسحة فيها ان يخبره. فقال: "اما لفظا ً فلا، ولكني اكتب ذلك." فكتبه، ودفعه اليه. فكاد ينشق غيظا ً. وعمد على الانحدار الى البصرة للنظر في امرها، وما وكده غير بشار. فانحدر. فلما بلغ الى البطيحة، سمع أذانا ً في وقت ضحى النهار، فقال: "انظروا ما هذا الآذان. "فاذا بشار يؤذن سكران. فقال له: يا زنديق، عجبت ان يكون هذا غيرك! اتلهو بالاذان في غير وقت صلاة، وانت سكران؟" ثم دعا بابن نهيك، فامره بضربه بالسوط، فضربه بين يديه، على صدر الحراقة، سبعين سوطا اتلفه فيها. فكان اذا اوجعه السوط، يقول: " حس". فقال له بعضهم: "انظر الى زندقته، يا امير المؤمنين، يقول: حس، ولا يقول: بسم الله. فقال: "ويلك! أطعام هو فاسمي الله عليه ؟ " فقال له الآخر: "أفلا قلت: الحمد لله !" قال: "أو نعمة هي حتى احمد لله عليها؟" فلما ضربه سبعين سوطا ً، بان الموت فيه. فألقي في سفينة حتى مات. ثم رمي به في البطيحة. فجاء بعض اهله، فحملوه الى البصرة، فدفن بها. ولما مات بشار، ونعي الى اهل البصرة، تباشر عامتهم ، وهنأ بعضهم بعضا ً، وحمدوا الله، وتصدقوا، لما كانوا منوا به من لسانه.
أدب التراجم
يترجم لأبي طالب يحيى بن أبي الفرج سعيد بن أبي قاسم بن زيادة الشيباني البغدادي المتوفى سنة 583 ه.
كان من الأعيان الأماثل، والصدور الأفاضل، انتهت اليه المعرفة بأمور الكتابة والانشاء والحساب، مع مشاركته في الفقه وعلم الكلام والأصول وغير ذلك و له النظم الجيد. جالس أبا منصور بن الجواليقي، وقرأ عليه من بعده، وسمع الحديث من جماعة. وخدم الديوان - من صباه الى أن توفي - عدة خدمات. وكان مليح العبارة في الانشاء، جيد الفكرة حلو الترصيع، لطيف الاشارة. وكان الغالب في رسائله العناية بالمعاني أكثر من طلب السجع. وله رسائل بليغة، وشعر رائق، وفضله أكثر من أن يذكر. وتولى النظر بديوان البصرة وواسط والحلة، ولم يزل على ذلك الى المحرم سنة 575 ه. ورتب حاجبا ًبباب المتولي، وقلد النظر في المظالم ثم عزل عن ذلك.
نظرة في الجاهليتين
ان اقدم ما اتصل بنا من الشعر الجاهلي مقول معظمه في مثل المواقف التي قال فيها هوميروس الباذية. فهنالك شياطين. وجنيات تلقن الشعراء فصيح الكلام تلقين القيان لهوميروس. وفي مثل ذلك يقول الأعشى:
دعوت خليلي مسملا ً وعوا له جهنام جدعا ً للهجين المذمم
وجهنام تابعة عمرو بن قطن. ولكل من فحول شعراء الجاهلية جنية أو شيطان يلقنه الشعر. وهنالك ملوك كبار على قبائل صغار تتكاثف وتتحالف دفعا ً لعار وأخذا ً لثار. فتثور حرب البسوس بين بكر وتغلب وتتلاحم عبس وفزارة على أثر سباق داحس والغبراء ويكادون يفنون بعضهم بعضا ً كما كاد يفني الطرواد واليونان وحلفاؤهم. وهنالك أيام تتعاول وتتجاول فيها قبائل منهم فيستهتر أمرها ويذيع ذكرها كيوم الكلاب ويوم الجفار ويوم النسار ويتغنى الشعراء بحديثها تغني هو ميروس بيوم القناطرة ويوم الأيثول والكوريت وما أشبه ذلك مما يفوق الحصر.
واذا نظرت الى الاشخاص دهشت لما يبدو لك من الشبه في الأحوال والأقوال. فمن بطل كعنترة ترتجف لصوته القبائل ارتجافها لصوت آخيل يغاظ مثله فيعتزل القتال فينكل العدو بقومه حتى يهب من عزلته فيفعل فعل آخيل في عودته. ومن خطيب كسنطور يقف واعظا ً موقعا ً قس بن ساعدة فيرشد ويرغب ويرهب. ومن اخوة واخوات وازواج وزوجات وبنين وبنات وآباء وامهات يقولون ويفعلون في جاهلية العرب نظير قولهم وفعلهم في جاهلية اليونان مما ستراه لالمقابلة في تعاليق الشرح. ولو اتسع لنا المقام لما عدمنا سليلا ً الى ابراز نظير لكل من رجال الالياذة ونسائها.
واذا حولت نظرك الى اللباس والرياش وطرق المعاش رأيت مع سبق اليونان في حلبة الحضارة مشاكلة ً باهرة في حالة المعيشة الفطرية والسذاجة الخلقية والحرية الجاهلية: سراة كألسيل يتسابقون الى قرى الأضياف كحاتم الطائي ويبنون بيوتهم على مضرب السبل في قارعة الطريق. وامراء كأخيل وفطرقل يأمرون وينهون ولديهم الحشم والجوار ومع هذا فهم بيدهم يتولون توزيع الزاد على الأضياف وينحرون الذبيحة بمراهم على نحو ما نحر الأمير الكندي ناقته للعذارى. وابناء ملوك كولد فريام لا تعيبهم مع غناهم رعاية المواشي وتربية الانعام كما قال خالد ابن الوليد لما هان الأرمني" واذا ما ذكرت من فقرنا ورعينا الابل والشاء فما منا من لم يرع واكثرنا رعاة ومن رعي منا كان له الفضل على من لم يرع وسبايا تشرى وتباع. واسرى تقتل وتقتدي وتسرح باحسان الى غير ذلك مما لا نهاية له...
النظم
و مما يجب احكامه بعقب هذا الفصل الفرق بين قولنا حروف منظومة، وكلم منظومة. وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط، وليس نظمها بمقتضى ً عن معنى ً، ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما ً من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه.
فلو أن واضع اللغة كان قد قال "ربض" مكان "ضرب" لما كان في ذلك ما يؤدي الى فساد.
وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك؛ لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني ورتبها، على حسب ترتيب المعاني في النفس؛ فهو اذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء الى الشيء كيف جاء واتفق.
وكذلك كان عندهم نظيرا ً للنسج والتأليف، والصياغة والبناء، والوشي والتحبير، وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح.
والفائدة في معرفة هذا الفرق، أنك اذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها، وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.
وكيف يتصور أن يقصد به الى توالي الألفاظ في النطق، بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وأنه نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش، وكل ما يقصد به التصوير، وبعد أن كنا لا نشك في أن لا حال للفظة مع صاحبتها تعتبر اذا أنت عزلت دلالتهما جانيا ً.
وأي مساغ للشك في أن الألفاظ لا تستحق من حيث هي ألفاظ أن تنظم على وجه دون وجه. ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألفاظ، التي هي لغات، دلالتها لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء، ولا يتصور أن يجب فيها ترتيب ونظم.
ولو حفظت صبيا ً شطر كتاب العين أو الجمهرة، من غير أن تفسر له شيئا ً منه، وأخذته بأن يضبط صور الألفاظ وهيئتها، يؤديها كما يؤدي أصناف أصوات الطيور ، لرأيته – ولا يخطر له ببال – أن من شأنه أن يؤخر لفظا ً ويقدم آخر ، بل كان حاله حال من يرمي الحصى ويعد الجوز.
اللهم الا أن تسومه أنت أن يأتي بها على حروف المعجم، ليحفظ نسق الكتاب.
ودليل آخر: وهو أنه لو كان القصد بالنظم الى اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس، ثم النطق بالألفاظ على حذوها، لكان ينبغي ألا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم أو غير الحسن فيه، لأنهما يحسان بتوالي الألفاظ في النطق احساسا ً واحدا ً، ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئا ً يجهله الآخر.
وأوضح من هذا كله، وهو أن هذا النظم الذي يتواصفه البلغاء، وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله، صنعة يستعان عليها بالفكرة لا محالة. واذا كانت مما يستهان عليه بالفكرة، ويستخرج بالروية، فينبغي أن ينظر في الفكر بماذا تلبس، أبا لمعاني أم بالألفاظ؟ فأي شيء وجدته الذي تلبس به فكرك من بين المعاني والألفاظ فهو الذي تحدث فيه صنعتك، وتقع فيه صياغتك ونظمك وتصويرك.
فمحال أن تتفكر في شيء وأنت لا تصنع فيه شيئا ً وانما تصنع في غيره. ولو جاز ذلك لجاز أن يفكر البناء في الغزل ليجعل فكره فيه وصلة ً الى أن يصنع من الآجر؛ فهو من الاحالة المفرطة.
فان قيل: النظم موجود في الألفاظ على كل حال، ولا سبيل الى أن يعقل الترتيب الذي تزعمه في المعاني ما لم تنظم الألفاظ ولم ترتبها على الوجه الخاص.
قيل: ان هذا هو الذي يعيد الشبهة جذعة ً أبدا ً. والذي يحلها أن تنظر: أتتصور أن تكون معتبرا ً مفكرا ً في حال اللفظ مع اللفظ حتى تضعه بجنبه أو قبله وأن تقول: هذه اللفظة انما صلحت هاهنا لكونها على صفة كذا؛ أم لا يعقل الا أن تقول: صلحت هاهنا لأن معناها كذا، ولدلالتها على كذا، ولأن معنى الكلام والغرض فيه يوجب كذا، ولأن معنى ما قبلها يقتضي معناها؟
فان تصورت الأول فقل ما شئت، واعلم أن كل ما ذكرناه باطل.
وان لم تتصور الا الثاني فلا تخدعن نفسك بالأضاليل، ودع النظر الى ظواهر الأمور، واعلم أن ما ترى أنه لا بد منه من ترتيب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص ليس هو الذي طلبته بالفكر، ولكنه شيء يقع بسبب الأول ضرورة ً، من حيث أن الألفاظ اذا كانت أوعية ً للمعاني فانها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها. فاذا وجب لمعنى ً أن يكون أولا ً في النفس، وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا ً في النطق.
فأما أن تتصور في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب، وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا ً في نظم الألفاظ، أو أن تحتاج بعد ترتيب المعاني الى فكر تستأنفه لأن تجيء بالألفاظ على نسقها ، فباطل من الظن، ووهم يتخيل الى من لا يوفي النظر حقه.
وكيف تكون مفكرا ً في نظم اللفاظ، وأنت لا تعقل لها أوصافا ً وأحوالا ً، واذا عرفتها عرفت أن حقها أن تنظم على وجه كذا.
ومما يلبس على الناظرفي هذا الموضع ويغلطه أنه يستعبد أن يقال: هذا كلام قد نظمت معانيه، فالعرف كأنه لم يجر بذلك. الا أنهم وان كانوا لم يستعملوا النظم في المعاني قد استعملوا فيها ما هو بمعناه ونظير له وذلك قولهم: أنه يرتب المعاني في نفسه وينزلها ويبني بعضها على بعض، كما يقولون: يرتب الفروع على الأصول، ويتبع المعنى المعنى ويلحق النظير بالنظير.
واذا كنت تعلم أنهم استعاروا النسج والوشي والنقش والصياغة لنفس ما استعاروا له النظم ؛ وكان لا يشك في أن ذلك كله تشبيه وتمثيل يرجع الى أمور وأوصاف تتعلق بالمعاني دون الألفاظ - فمن حقك أن تعلم ان سبيل النظم ذلك السبيل.
واعلم أن من سبيلك أن تعتمد هذا الفصل جداً، وتجعل النكت التي ذكرتها فيه على ذكر منك أبدا ً؛ فانها عمد وأصول في هذا الباب، اذا أنت مكنتها في نفسك وجدت الشبه تنزاح عنك، والشكوك تنتفي عن قلبك، ولا سيما ما ذكرت من أنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا ً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ً ونظما ً، وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فاذا تم لك ذلك أتبعتها الألفاظ، وقفوت بها آثارها. وأنك اذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج الى أن تستأنف فكرا ً في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم الألفاظ الدالة عليها في النطق.
ابتداع المعاني
وبعد هذا، فسأقول لك في هذا الموضع قولا ً لم يقله أحد غيري، وهو: ان المعاني المبتدعة شبيهة بمسائل الحساب المجهول من الجبر والمقابلة. فكما أنك اذا وردت عليك مسألة من المجهودات تأخذها وتقلبها ظهرا ً لبطن وتنظر الى اوائلها وأواخرها، وتعتبر أطرافها وأوساطها، وعند ذلك تخرج بك الفكرة الى معلوم، فكذلك اذا ورد عليك معنى من المعاني، ينبغي لك أن تنظر فيه كنظرك في المجهولات الحسابية. الا أن هذا لا يقع في كل معنى، فان أكثر المعاني قد طرق وسبق اليه، والابداع، انما يقع في معنى غريب لم يطرق، ولا يكون ذلك الا في أمر غريب لم يأت مثله، وحينئذ اذا كتب فيه كتاب، أو نظم فيه شعر، فان الكاتب والشاعر يعثر ان على فطنة الابداع فيه.
(المثل السائر) - رأي في الخيال - ابو القاسم الثاني
الخيال الشعري والأساطير العربية
لا يعرف التاريخ من الأساطير العربية الا شيئا ً يسيرا ً لا يستطيع الباحث ان يطمئن اليه بمفرده كل الاطمئنان ليستخلص منه رأيا ً فاصلا ً او نتيجة جازمة، وهو الى ذلك مضطرب كل الاضطراب مختلط غاية الخلط لا يحده نظام ولا يسوسه قانون ولا يجمعه كتاب خاص كما في اساطير الامم الاخرى، وانما هو نبذ متفرقة في كثير من كتب الادب والاخبار لا يمكن جمعها الا بعد جهد كبير، بعضها له اتصال بعقائد العرب قبل الاسلام وبعضها له اتصال بعوائدهم والبعض الآخر يتصل بتاريخهم القديم. وقد كنت اول الامر احمل الوزر على الرواة الذين ازدروا هذا الفن ولم يعنوا به عنايتهم بالشعر والامثال اما الآن فقد اصبحت اعتقد ان ما نقله الينا الرواة هو كل ما عند العرب من هذا الفن وان العرب انفسهم ما كانوا يقيمون لهذا الفن وزنا ً ولولا لنظموا اساطيرهم كما نظمها غيرهم من الامم القديمة كاليونان والرومان وقدماء المصريين ولكان شعراء الجاهلية يتغنون بها في اناشيدهم واشعارهم كما كان الشعراء اليونان والرومان يغتنون بها قبل مجيء المسيحية.
وهذا الشيء اليسير الذي حدثنا عنه التاريخ من الاساطير العربية ينقسم في نظري الى قسمين اصليين: القسم الاول الاساطير الدينية ويندرج تحت هذا القسم ما كان من قبيل العوائد لأن أكثر العوائد انما هي عقائد متحجرة بمفعول الزمن. القسم الثاني: الاساطير التاريخية وهي تلك الاخبار التي لها ارتباط بالتاريخ العربي القديم، واراني بالرغم عن قلة الاساطير العربية واضطرابها مضطرا ً بطبيعة البحث الى ان اقتصر على القسم الاول دون ان اعرض للقسم الثاني ببحث او تمحيص،وذلك لأن غايتي من البحث في الأساطير العربية انما هي معرفة حظها من الخيال الشعري قلة وكثرة وقد علمتم من كلمتي السابقة انني اعني بالخيال الشعري ذلك الخيال الذي يحاول الانسان ان يتعرف من ورائه حقائق الكون الكبرى ويتعمق في مباحث الحياة الغامضة ولا اخال ان من المعقول ان يوجد مثل هذا الخيال في الاساطير التاريخية ، لأن هذا النوع وان كان من صنعة الخيال الا انه ليس من عمل الخيال الشعري الذي اريد الحديث عنه، ولذلك فانني لا اعرض لمثل هاته القصص الطويلة التي يروونها من عمرو ابن عدي واضرابه ممن تخطفتهم الجن تعشقا او انتقاما ولا لمثل هاته القصص والأقاويل التي يحكونها عن شق وسطيح ولا لهاته الاحاديث المستفيضة عن ايام العرب وحروبهم ولا لمثل هاته الاخبار الدموية التي يحكيها الرواة عن قبيلتي طسم وجديس معللين بها فناء هاتين القبيلتين.
كل هذا واشباهه لا اعرض له بشيء من البحث اما الذي سأبحث فيه فهو الاساطير الدينية وما مت اليها بسبب متين.
ورأيي في هذه الأساطير هو انها لاحظ لها من وضاءة الفن واشراق الحياة وان من المحال ان يجد الباحث فيها ما الف ان يجده في اساطير اليونان والرومان من ذلك الخيال الخصب الجميل ومن تلك العذوبة الشعرية التي تتفجر منها الفلسفة الغضة الناعمة تفجر المنبع العذب بل انه ليعجزه ان يلفي فيها حتى تلك الفلسفة الشعثاء الكالحة التي تطالعه في اساطير الاسكنديناف. فالاهة العربية لا تنطوي على شيء من الفكر والخيال، ولا تمثل مظهرا ً من مظاهر الكون او عاطفه من عواطف الانسان وانما هي انصاب بسيطة ساذجة شبيهة بلعب الصبية وعرائس الأطفال وبقية الاساطير الدينية لا تفصح عن فكر عميق او شعور دقيق ولا ترمز لمعنى من المعاني السامية وانما هي أدنى الى الوهم منها الى أي شيء آخر لا استثني من ذلك الا اسطورة النجوم فان عليها شيئا ً من وضاءة الشعر ونضارة الخيال.
فقد عبد العرب اربابا ً متفرقة وآلهة كثيرة كغيرهم من الامم الوثنية القديمة ولكنهم لم يعبدوا تلك الآلهة بعد تفكير عميق في ظواهر هذا الوجود كما فعل غيرهم من امم العالم وانما كانت عبادتهم على احد ضربين اما تأليه الأجداد او تقليد غيرهم من الامم في عبادة آلهتها وبعبارة علمية ان الباعث لتلك العقيدة الوثنية في انفس العرب لم يكن هو "التشخيص" أي أن يخلع الانسان على ما حوله من الاشياء ثوب الحياة وينظر اليها كارواح حية نامية تشاركه الحس والحياة: وانما كان الباعث عليها (عبادة الاموات) في الأكثر واحتذاء الامم الاخرى التي سبقتها الى التدين في معتقداتها الدينية، واتباع العرب لغير التشخيص هو السبب في ان اساطيرها لم تكن مشتملة على شيء من الخيال الشعري ولكن قد يسأل السائل: وما الذي دفع العرب في هذه الطريق التي بعدت بهم عن الخيال الشعري بعدا ً كبيرا ً؟ والجواب هو ان هذا له علاقته بالروح العربية التي سأتكلم عنها فيما بعد.
وهذا الذي قلته عن الآلهة العربية يظهر لأول وهلة من معرفة الآلهة العربية والاساطير التي يروونها عنها.
فقد عبد العرب اساف ونائلة وهما صنمان زعموا انهما رجل وامرأة من جرهم فجرا بالكعبة فمسخهما الله حجرين وانني لا افهم كيف عبدا وقد حل بهما هذا العذاب، اللهم الا ان يقال ان العطف عليهما قد استحال في النفوس الى حب ثم الى اجلال ثم الى عبادة على توالي العصور وتراخي الزمن. وعبدوا اللات والعزى والرواة يختلفون فيهما اختلافا ً كبيرا ً فمنهم من يزعم انهما نخلتان الههما العرب ومنهم من يزعم انهما صنمان لرجلين صلحين كان احدهما يلت السويق للحجيج ومنهم من يزعم انهما صنمان جاء بهما عمرو بن لحيي. وعبدوا مناة وهو صنم كان بين مكة والطائف، وعبدوا يغوث ويعوق وسواع ونصرا وهي من آلهتهم القديمة التي نصبوها لقوم من صلحائهم بعد موتهم على سبيل الذكرى فانقلبت الذكرى الى عبادة بطول الزمن.
وعبدوا المشتري فقالوا: (عبد المشتري) وعبدوا الشمس فقالوا : (عبد شمس) وسموها الآلهة وزعموا انها تهب الاسنان جمالا ً وحسنا ً فكان صبيهم اذا اثغر اخذ سنة بين السبابة والابهام واستقبل الشمس قائلا ً : "يا شمس! ابدليني بسن احسن ولتجر في ظلمها آياتك!".
قال طرفه:
اسقته اياه الشمس الا لثاته اسف ولم تكدم عليه باثمد
وقال غيره:
بدلته الشمس من منبته بردا ابيض مصقول الاشر
واحسب ان هاته العقيدة قد انقلبت الى عادة ظلت حية الى ما بعد الاسلام وان بعض العرب جاء بها الينا وهذا ما اعلل به وجود هاته العادة عندنا فان كثيرا ً من جهات المملكة يامرون اطفالهم عند الاثغار ان يفعلوا مثل هذا الفعل ويقولوا قولا ً قريبا ً منه. ولا اشك ان عبادة المشتري والشمس قد اخذها العرب عن الاشوريين كما اخذوا عبادة تالب واضر وهبتون وعشتر.
فقد رأيتم ان آلهة العرب لم تخرج من ذينك النوعين الانفين: تأليه الاموات او تقليد الامم الاخرى وانها لم تكن مشتملة على فكر او لميال وانما هي اصنام جامدة لا تصور لونا ً من الوان الحياة. حتى ان عشتروت وهي آلهة الحب والجمال عند الاشوريين التي كانوا يصفونها بانها: موقدة شعلة الحياة وحارسة الشبيبة. والتي كان الشبان والعذارى يرتلون اغاني الحب تحت قدميها لما عبدها العرب باسم عثتر لم يعبدوا فيها ذلك المعنى العميق الذي يصل الحب بالجمال وانما عبدوا فيها صنما لا يرمز الى شيء ولا ينم عن فكر.
ومن اساطيرهم التي كانوا يدينون بصحتها: الغول وهي حيوان خرافي يزعمون انه كريه المنظر شنيع الخلقة يألف الغيران الموحشة والفيافي المقفرة ليضلل الناس ويلهوا بالجماجم ويدعي ابطالهم انهم شاهدوها وحاربوها فانتصروا عليها وقد اولع تابط شرا ً بوصفها والتحدث عنها في شعره ومن ذلك قوله:
واني قد لقيت الغول تهوي يسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها: (كلانا نضوأين، اخو سفر، فخلي لي مكاني!)
فشددت شدة نحوي، فاهوى، لها كفي بمصقول يماني
فاضربها بلا دهش فخرت صريعا ً لليدين وللجران
فقالت: "عد" فقلت لها رويدا مكانك! انني ثبت الجنان
فلم انفك متكئاً عليه لانظر مصبحا ماذا اتاني
اذا عينان في راس قبيح كراس الهر مشقوق اللسان
وساقا مخدع وشواة كلب وثوب من عباءة او شنان
ومنها الصدى او الهامة وهي طائر خرافي يزعمون انه يخرج من راس القتيل الذي طل دمه ويقف على قبره هاتفا: "اسقوني فاني صدية! " ولا يزال كذلك الى ان يؤخذ بثار القتيل فيختفي الطائر ثم لا يعود، قال شاعرهم:
له هامة تدعو اذا الليل جنها "بني عامر! هل للهلالي ثائر؟"
ومنها شياطين الشعراء وذلك انهم كانوا يعتقدون ان لكل شاعر شيطانه الذي يوحي اليه الشعر ويروون اخبارا ً كثيرة عن هؤلاء الشياطين فكان صاحب امرىء القيس، لافظ ابن لاحظ، وصاحب عبيد ابن الابرص، هبيد بن الصلادم. وصاحب الاعشى. مسحل السكران بن جندل. وصاحب زياد الذبياني ، هاذر بن ماذر. وصاحب الكميت. مدرك بن واغم ابن عم هبيد صاحب لبيد ابن الابرص..
ومنها اسطورة النجوم وهم على خلاف فيها فمنهم من يقصها على هذا النحو وهو: "ان سهيلا ً واختيه العبور والغميضاء كانت ثلاثتها مجتمعة ثم انحدر سهيل الى ناحية اليمن بعد ان خاص نهر المجرة وتبعته احدى اختيه فسميت عبورا ً ولبثت الاخرى مكانها فبكت لفراق اختها حتى غمضت عينها فسميت غميصاء." ومنهم من يرويها على وجه آخر هو "ان سهيلا ً كان فارسا ً جميل الطلعة ساحر المنظر فخانه الحظ في معركة سماوية وراء المجرة فخر صريعا ً تكسوه الدماء القانية فراع اختيه مصرع اخيهما الباسل فعبرت اليه احداهما نهر المجرة وظلت واجمة عند راسه وفي جفنها عبرة حائرة: فسميت عبورا. وقعد بالثانية الرزء الفادح والحزن المرير عن اللحاق باختها فانهلت تذرف الدموع حتى غمصت عينها الباكية... فسميت غميصاء".
فهل رايتم فيما تلوته عليكم من اساطير العرب واحدة تشرق بالفن والحياة كما يشرق الكوكب بالنور الجميل والوردة بالعطر الاريج؟ وهل وجدتم فيها جمالا ً اكثر من هذا الحديث الخيالي الوضيء الذي يروونه عن سهيل واختيه؟ وكذلك كانت اساطير العرب. وثنية جامدة جافية لم تفقه الحق ولا تذوقت لذة الخيال، واوهام معربدة شاردة لا تعرف الفكر ولا اشتملت على شيء من فلسفة الحياة... اما اساطير الامم الاخرى فقد كانت مشبعة بالروح الشعرية الجميلة زاخرة بفلسفة الحياة الفنية الراقصة في ظل الخيال... فقد اخذ اليونان كثيرا ً من عقائدهم واساطيرهم عن الاشوريين كما اخذ العرب انفسهم ولكنهم طبعوها بطابع حياتهم الخاصة فكانت رشيقة شعرية ساحرة اكثر مما كانت عليه عند الاشوريين، فهم قد اخذوا عن الاشوريين عبادة الهة الحب والجمال: "عشتروت" كما اخذها العرب عنهم. ولكن العرب عاملوها كما يعاملون انصابهم التي لا ترمز الى فكر ولا تمثل عاطفة فكانت صنما ً حجريا ً جامدا ً تحجبه الكآبة الصماء والسكون الاليم. اما اليونان فقد اتخذوا لهااسما ً آخر هو: "افروديت" ونسجوا حول نشأتها اساطير شعرية لم يعرفها الاشوريون فكانوا يزعمون انها خلقت من امواج البحار! واتخذوا الها للحب سموه: "ايروس" وزعموا انه ابن افروديت وان له جناحين ذهبيين وانه يحمل ابدا سهاما حادة ومشاعل تلتهب..! أرأيتم هذا العمق في الفكر وهاته السعة في الخيال في الاسطورة التي تزعم ان افروديت قد خلقت من امواج البحار؟ أي شيء انصع من امواج البحار واطهر؟ وأي شيء اعمق من البحر؟ وأدوى من لجج اليم بمعاني الحياة؟ وأي شيء اجمل من البحر في عمقه وسكونه؟ وأقوى من البحر في ثورته الطاغية؟ كذلك الجمال، فيه من القوة والعمق ما في الحياة التي انشأته، وكذلك تخلق ربة الجمال من امواج البحار التي تتمثل فيها قوة الحياة وعمقها وطهارتها. ثم الا ترون هاته الاسطورة الاخرى التي تجعل من الحب طفلا ً جميلا ً نبيلا ً انجبته افروديت يتالق في منكبيه جناحاه الساحران، ويحمل في راحتيه نباله الحادة ومشاعله النارية؟ الا تحسون بامواج الخيال فيها تلاعب شاطيء الحقيقة؟ ترى هل كانت الانسانية تعرف الحب لو لم تعرف الجمال؟ وها كان الحب في الحقيقة؟ ترى هل كانت الانسانية تعرف الحب لو لم تعرف الجمال؟ وها كان الحب في الحقيقة وعند النفس الا طفلا ً مسلحا.. له غرارة الطفولة وطهارتها الساذجة، وله طيشها وتجنيها ، وله مشاعله النارية التي قد تنير وجوه الدهر وقد تحرق آمال القلوب؟
وهكذا كانت آلهة اليونان واساطيرهم عنها: آراء شعرية يتعانق فيها الفكروالخيال، فكل آلهة رمز لفكرة او عاطفة او قوة من قوات الوجود، وكل اسطورة صورة شيقة من صور الشعر يقرؤها الباحثون فيحسون انها صادرة عن مخيلة قوية واحساس فياض يشمل العالم ويحس بادق انباض الحياة. فكما انهم قد جعلوا للحب الها وللجمال آلهة فكذلك جعلوا للحكمة آلهة وللشعر والموسيقى الها ولغير هذه من المعاني العميقة ومظاهر الكون الرائعة ارواحا ً وحياة تحس وتشعر بحيث كانوا ينظرون الى الوجود من خلال اساطيرهم نظرة فنية تحس بتيار الحياة يتدفق في كل كائن ويستجيش في كل موجود وانني لاكتفي بواحدة من اساطيرهم تبين لكم مذهبهم في الوجود فقد كانوا يعتقدون ان الصدى جنية من بنات الجبال والأودية وانها كانت خلابة المنظر والحديث فمرت بها يوما ً "هيرا" وكانت ذاهبة لتفاجيء زوجها مع بعض عشيقاته في احدى مقاصر الأولنب فاستهواها صوتها حتى فاتها الغرض وفر العشيقات الى مآويهن فتملك نفسها الغضب على الصدى فسلبتها قوة الكلام الا اعادة ما تسمع فأصبحت من ذلك الحين والهة حائرة تتلقف الاصوات لترجعها كأنات الالم. تلك كانت اسطورة اليونان عن الصدى اما العرب فبالرغم عن انهم يسمون الصدى: "ابنة الجبل" فانهم لم يؤلفوا اسطورة عنها تتغنى بوحشتها وانفرادها بين الجبال وتترنم بخلجات قلبها بين الغيران والأودية..
وكذلك كانت اساطير الاسكنديناف فبالرغم عن انها جافية كالحة لاحظ لها من رقة اساطير اليونان وخلابتها فانها تأخذ من الفلسفة والشعر بحظ وافر فمن اساطيرهم: انهم كانوا يرون الحياة شجرة قوية راسخة تضرب بعروقها في مملكة الموت وتنتشر بفروعها في آفاق السماء وعند اصلها في مملكة الموت يجلس الامس واليوم والغد. يروون جذورها من البئر المقدسة وهي دائما ً تورق ثم تزهر ثم تثمر ثم يجف ما عليها من ورق وزهر وثمر ليهوي الى مملكة الموت حيث يجلس الامس واليوم والغد. فهل رأيتم فيما نظم الشعراء وكتب الكاتبون اعمق خيالا ً واصدق تصويرا ً للحياة من هاته الاسطورة وهل رايتم واحدة من اساطير العرب تدانيها سعة في الفكر وغزارة في الخيال؟
الأدب كما يفهمه الجيل
قبل أن نخوض في تعريف الأدب الصادق، وبيان الوجه الذي يجب أن يفهم عليه في هذا الجيل، ينبغي أن ننبه الى اجتناب خطأ شائع يضل كل تقدير، ويفسد كل تعريف، ولا ينفع الواقعين فيه اطلاع ولا ادمان نظر، وليس يتأتى درس صالح لأي باب من أبواب الأدب قبل الخلاص من آفتة وانتزاع كل أثر عالق بالذهن من آثاره. ذلك الخطأ هو النظر الى الأدب كأنه وسيلة للتلهي والتسلية؛ فانه هو أس الأخطاء جميعا ً في فهم الآداب، والفارق الأكبر بين كل تقدير صحيح وتقدير معيب في نقدها وتمحيصها.
فنحن اذا ً لا نتكلم الآن في الأدب الصادق والنظرة التي تجب له من أبناء هذا الجيل، وانما نبدأ بالكلام أولا ً في النظرة التي يجب ألا ينظروا اليه بها. وهذه عندنا هي أوجز طريق الى تعريفه الصحيح.
آعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو الذي يصرفه عن عظائم الأمور، ويوكله بعواطف البطالة والفراغ، لأن هذه العواطف أشبه بالتلهي وأقرب الى الأشياء التي لا خطر لها ولا مبالاة بها، وماذا يرجى من البطالة والفراغ غير السخف والمجانة وفضول الكلام.
وآعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو الذي يرفع عن الشاعر كلفة الجد والنظر الصادق، فيصغي اليه الناس حين يصغون ، كأنما يستمعون الى طفل يلغو بمستملح الخطأ ، ويلثغ بالألفاظ المحببة الى أهله ؛ فلا يحاسبونه على كذب ولا يطالبونه بطائل في معانيه ، ولا يعولون على شيء مما يقوله. واذا غلا في مدح أو هجاء أو جاوز الحد في صفة من الصفات، فمسخ الحقائق ونطق بالهراء؛ وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ ، ومثل أشواق النفوس وآمالها وفضائلها ومثالبها ، على خلاف وجهها المستقيم في الطبائع السليمة غفروا له أخطاءه ، وقالوا: لا عليه من بأس. أليس الرجل شاعرا ً؟ ولو أنصفوا لقالوا : أليس الرجل هازلا ً؟ وانهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم ، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقا ؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد.
واعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو علة ما يطرأ على الكتابة والشعر من التزويق والبهرج الكاذب، والولع بالمحسنات اللفظية والمغالطات الوهمية؛ لأن المرء يجيز لنفسه التزويق والتمويه ومداعبة الوقت حين يتلهى بشغل البطالة، ويزجي الفراغ فيما لا خطر له عنده.
ولكنه لا يجيز لنفسه ذلك ولا يميل اليه بطبعه حين يجد الجد ويأخذ في شئون الحياة، بل لعله ينفر ممن يعرض عليه هذه الهنات في تلك الساعة، ويزدريه ويخامره الشك في عقله.
فمما تقدم نرى على الاجمال أن هذا الاعتبار الفاسد هو العلة في كل ما يعرض للآداب من آفات الاسفاف الى الأغراض الوضيعة والغلو والعبث، وتشويه المعاني، والكف المفرط بمحسنات الصناعة وغيرها من ضروب التزييق، وهذه كما نعلم هي جماع ما يعتري الآداب من آفات المعنى واللفظ في اللغات، والعصور كافة.
ومن شاء تحقيق ذلك والتثبت منه في تواريخ الآداب فليرجع الى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط الأدب العربي؟ انه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق اليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية، في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تحمل الى الملوك والأمراء لارضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم ، وكان أول ما ظهر من عيوبه المبالغة والشطط ؛ لأن كثرة الممدوحين والمادحين تدعو الى التسابق في تعظيم شأن الممدوح وتفخيم قدره وتكبير صفاته، والارباء بها على صفات الممدوحين قبله ، فلا يقنع الشاعر، ولا الملك أو الأمير، بالقصد في الوصف والصدق المألوف في الثناء، ويجر ذلك الى التفنن في معاني المدح وغير المدح؛ لأن المبالغة الساذجة لا ترضى في كل حين، ولا بد من شيء من التنويع واللباقة يسوغون به هذه المبالغات المتكررة. ومن هذا التفنن والاحتيال تشأ المغالطة في المعاني والتورية المتحملة والهزل العقيم. ومتى اجتمعت المغالطة في المعاني والتطرف في المنادمة والتسلية فهما كفيلان باتمام ما يبقى من صنوف التلفيق في اللفظ والمعنى، وضروب التوشية والتزويق المموه، وأشتات الجناس والطباق والمقابلة، والطي والنشر، والتفويق والتوشيخ، وسائر ما تجمعه كلمة التصنع. وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي بالاجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب الموضوع، وما نشأ شيء منها كما ترى الا من طريق التسلية وتوخي ارضاء فئة خاصة.
وهكذا كان الشأن في اللغات كافة ؛ فان انحطاط الآداب في جميع اللغات انما كان يبدأ في عصور متشابهة، هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على ارضاء طائفة محدودة ؛ يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة ؛ وشهوات فراغها المتقلبة ، فتكثر فيه الصنعة، ويقل الطبع؛ فيضعف ويسف الى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والاسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتخرجه من ذلك النطق الضيق الى أفق أوسع منه وأعلى، لاتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وهذا بعينه ما أوشك أن يحدث للأدب الانجليزي بعد عهد اليصابات، فقد كاد يلحق من ذلك العهد الى أواسط القرن التاسع عشر بالأدب الفرنسي في العيوب الانفة لو لا أن ثورة الشعب الانجليزي قد تقدمت ، فأنقذت الأدب ولم تدع للملوك والنبلاء سبيلا ً الى أن يتحكموا في الشعر والكتابة كل التحكيم ، ويجعلوهما وقفا ً على أذواقهم وشهواتهم. فكان له من ذلك بعض العصمة والمناعة، وقل مثل ذلك في كل عهد انحطاط منيت به الآداب والفنون في جميع الأمم والأزمنة.
وربما ىختلفت أعراض الانحطاط بعض الاختلاف بين عصر وعصر ، وبين لغة ولغة، ولكنه لا اختلاف البتة في أن آداب التلهي والتسلية لم تكن قط نامية ً ناهضة، وأنها كانت في كل حالة من حالاتها قرينة السخف والغثاثة؛ فاذا بدأ الناس ينظرون الى الأدب بعين لاهية لاعبة فقد آذنت حياتهم بالخلو من الجد ،ودل ذلك على ضعف نفوسهم، وحقارة الشئون التي يمارسونها؛ لأن الأدب هو ترجمان الحياة الصادق ، فكما يكون الأدب تكون الحياة. ان جدا ً فجد، وان هزلا ًفهزل - على أن الأدباء قد يجدون والأمة هازلة سادرة، ولكنهم قلما يهزلون والأمة جادة متيقظة.
وآية أخرى يتم بها توضيح هذا الرأي نرد به أسباب الانحطاط في الآداب الى العلل التي يجمعها وقف الأدب على التسلية وارضاء فئة خاصة من الناس. وهذه الاية هي أنك متى جاوزت الطور الذي نفشو فيه تلك العلل لم تكد تصادف الا أدبا صادقا ً فحلا ً مبرأ من التقليد وشوائب الصنعة. فأما قبل ذلك الطور فيغلب أن يكون الأدب ملكاً مشاعا ً للقبيلة كلها، ولا هزل في أدب القبيلة، انما هو فخر تتطاول به أعناقها، أو غضب تغلي به صدورها، أو غزل تترنم به كل سليقة من سلائقها ، أو تاريخ يسجل أنباءها، ويستوعب لها خلاصة تجاريبها وحكمتها . وأما بعد ذلك الطور فيغلب أن يكون الأدب ملكا ً للأمة عامة، أو للانسانية قاطبة، فلكل قارىء حصته منه، ولكل آونة حقها فيه، ولا أمل له في النجاح ان لم يكن مستقرا ً على قواعد الفطرة الانسانية الباقية، لا على الأهواء العارضة، المآرب الفردية الخاوية.
وها قد وصلنا الى مفترق طريقين في تعريف الأدب. فمن هنا أدب تمليه بواعث التسلية وعلالات البطالة، وتخاطب به الأهواء العارضة. وهو الأدب الذي يجدي فيه ما توزع من ألوان الآداب السقيمة الغثة. ومن هنا أدب تمليه بواعث الحياة القوية، وتخاطب به الفطرة الانسانية عامة ، وهو الأدب الصحيح العالي.
ذلك مقياس الأدب الذي نوصي به قراء هذا الجيل، وعلى هذا المقياس نعول في تمييزه وتصحيح النظر اليه.