نعمة الله الحاج بقلم الدكتور جورج شبلي
مَن حطَّ رحاله في الغُربة، وولّى ظهره الأرض وعيناه لا يملكهما غَمض، يُشبهُ مَن ليس له في العُلا مَركب ولا في الوغى فارس. قلبُه ساقه القَدَر، لذلك يَخشى أن تخونه أرض قَدَمه، ويعقلَ الرّعب يديه، ويضمرَ زادُه فلا يملك الذّهاب ولا الرّجوع، فيحنّ الى وطنه ينقشُ ترابَه بشَفَتَيه وكأنه يقول: الوَيل لمَن فارقه وطوبى لمَن رافقه.
هذه حال المَهاجرة أينما كانوا، ونعمة الله الحاج واحدُهم الذي فارق الجِنان بحثاً عن عيش رَطب وظلّ رَحب، لكنّ هاجرةَ الهَجر صهرَت بَدَنه وسيرةَ الدَّهر مزَّقت أرديَته. من هنا، أسرفَ في الحنين أيَّما إسراف، وجاءت نتاجاته، كما شعراء المهجر، الأَحفَلَ بأخبار الشَّوق وجوانب الوجدان الذي هو أَذهَبُ في مسالك القلب. ونعمة الله الحاج الشّاعر الكثير العناية بالمشاعر الإنسانية، جعل في قصائده جوّاً مُشبَعاً بأَوزار العواطف، فكانت قُطَعاً من قلبه، ليصُحَّ القول إنّ القلب يُنتِج أدباً. لكنّ نعمة الله لم يُسقط البكاء على الشموليّ العميق وراء المعاني، ولم يدع الدموع تُذبل النفس بل تُطهّرها. وبدا أنّ موجة الحلم الرومنطيقي احتلّت بديناميّتها أعماق نفسه التي أغارت على الطبيعة، وأشعلتها بالرّموز والأخيلة، ثم تجاوزت رموزها الى الحالة الإنسانية، حتى خرجت بها من التعبير عن الإنساني الى التعبير عن الكونيّ، وهذا ما لم يعرج الى مثله إلاّ الخاصة من المًهجريّين وسواهم.
نعمة الله الحاج كان إبتداعيّاً تجديدياً، لكنّنا نلمس في شعره الحيّ أبداً مدى حرصه على عدم فهم الحداثة بمنأى عن التراث، من هنا، كان له مواقف واضحة من إشكالية العلاقة بينهما. وخلاصة رأيه في القالب الشعري المُبتكَر، أنّ الحداثة والتراث ليسا في تَباعُد وغربة، فهما يتصادقان ويتلاقحان بحيث ينعدم السؤال عمّا إذا كانا متكاملَين أم متخاصمَين. فالحداثة معه تحتضن التراث، بمعنى أنّ الصِّيغ الجديدة المُصطَفاة والمُستساغَة، تحمل طروحات ومشاعر ربّما تناولها شعراء المهجر من أوّلهم، لكنّ نعمة الله لم يكن يرغب في استعارة معانٍ مُكرَّرة وتصويرات نفسية يابسة، مُشيحاً عن بعض التراث بِقَدر ما هو ميت. لذلك صوَّر في ديوانه "من نافذة الخيال" أعراض الخواطر للإنتصار بها، يُؤوى معه إليها للتَعَزّز لا للشفقة، ولصيانة النفس لا لانكسارها.
لم يُنتِج نعمة الله الحاج شعراً بمعزل عن الوطن الذي كان معه شهقة الرّوح، والذي ما مِن أحدٍ في المَهاجر إلاّ وله في هذا الشأن حُصّة. فصورة الوطن التي تراود باله لم تكن في الأساس كابوساً آسِناً يحطّم الأمل، بقدر ما هي كُمونٌ لانشراح النفس ولعودة القلب الى الحُبور والغبطة. والحديث الوجدانيّ عن الوطن في شعر نعمة الله، كما في نتاجات المَهاجرة، يقدّم لنا وَضعاً إنفصاميّاً يمكن أن يصل الى حدود الصّراع بين الوعي واللّاوعي. ومعنى ذلك أنّ الشاعر يعيش تَشَظّياً روحياً بين الرّسم والذكرى، بين مِطرقة الضرورة وسندان الحنين، بين نَعيم الحسّ وجحيم العقل. وليس غريباً أن ينشأ هذا الوضع عن معاناة الأيام، فكَسادُ الفرح ووقعُ اليأس ومرض الأمل، كلّ ذلك يدفع بالشاعر الى التأسّي وبالمَشاعر الى الأنين، فترى الرّوح مَطهرها وسواساً حسيّاً لا يُطوى الى ساعتها.
الجَمال في أدب نعمة الله هو سرّ اللذة فيه، وذلك عائدٌ الى استفاقة الحلاوة أو الشَّجا في نفسه، يحرّرهما من صنميّة التعبير هذا الذي يدرّبه على تجديد جلده وروحه لينفتح على لغة الحياة. لكنّ نعمة الله لم يحشر قلمه في القوانين البلاغية لِتَباتَ نمطَه في الكتابة، لكنه استخدمها للتشويق بحثاً عن الجَمال، فكان له معه ولاء، والولاء لُحمَة. من هنا، يصحّ فيه ما قاله "ابن بسّام" عن "ابن بُرد" بأنّه واسطة السِّلك، فنعمة الله كان عن حقّ يُحكم الخطّ فيقوّم حروفه، ويراعي المَداد فيجيد صنعته، ولم يكن معه بين الكتابة والجَمال مُنازعات فجمعَ بعنايةِ أدواتِه قُطبَيهما. وكلّ ذلك كان حصيلة تربية الشّاعر في مناخِ حضورِ الجَمال في داخله، وحرصه على أن يكون هذا المناخ مُنقّى إلاّ من توثّب الحياة، هذا التوثّب الذي يكفينا أن ندرك منه الكلمة الأولى.
لقد كان بين ضلوع نعمة الله قلب وفيّ أمين، لذلك كان نُبل كتاباته من نُبل صاحبها، وسما ذكرها بمشهور نَسَبها، فالشاعر الشديد الإستواء، لا يَعتصمُ في ما ينظم إلاّ بخاطره، ولا يقول إلاّ على قريحته، لنرى كيف لَانَ الشّعرُ وعَذُبَ على جَرّات حِبره. لكنّ ذلك لم يمنع عنه ملاحظة طرائق التعبير لدى المُحدَثين، هؤلاء الذين احتذى على حَذوهم في أساليب الكتابة، في حين رأى بعض النقّاد أنّه لم يكن محتاجاً إليها. وإنْ صَحَّ خبرُ التأثّر، فهو لنعمة الله لا عليه، وإنْ طُلِبَ وصفُ جَيّده قيل: إنّ جَيّدَه كثير.