ميشال طراد بقلم الدكتور جورج شبلي
إنّ قوّة الشَّغَف بمَلاعب الجَمال أقامَت له هيكلاً ليس من جِنس هياكل البَشَر، ساحتُه أجزاء من نفوس، وعواميدُه نوازع من وجدان، وجدرانُه حِجاب من ضُلوع. ما كَفَّ منه وَجْد، ولا أَعْجَم فيه لسان، وما وقف عنه مَيَسان غصن. هو الجَمال مُنادِمُ الضِّياء بِنظيف لِبسَته، باسِطُ الأنس في شَوارد الأَهواء، لو عَطَبَ مِبضَعُ لَحظه العُروق لَأَمسى دمُها طِيباً.
في عِقار الجَمال حيث وُلِد، لم يعتب ميشال طراد على الزَّمن، ولم يستوحِش من ضيق مَحبِسه. ولِمرَّة، ما خاف عصفورٌ من تَذَكُّر قَفَصه، بل غَرَّد لغايات المَحاسن وثمار الخواطر وبدائع الكلام، يوقظ رَقيقَ القوافي برهيف حواسه، وتتحرَّش الأوزان بِسِعة اطِّلاعه كَأَكرَم الخُطّاب. فانقاد هواه الى الحُسن الطَّريف، وأَسلمه زِمام طَبعه، فجاء شِعره في أعلى درجات البَيان البسيط. ولم يستكثر ميشال طراد أن يُشغَل بدرس أسرار الجَمال، فالشِّعر إذا مال عن الجَمال أصابه عَوَج، ومَثَلُه كمَثَل النّور الوهّاج لا يَثبت في مواجهته إلاّ أصحّاء العيون. وإذا كان الشَّغَف هو سِمة الصّدق في الحبّ، فالصورة هي أصل القيمة في الشّعر، من هنا، تميَّز بها عن سائر أساليب التَّعبير. وطراد مَلاّحٌ ذوَّاقة ينتقي من تَلاطُم مَوج التّصاوير، زَبَداً يُلفِتُ نظر الشاطئ، وما " صَرخات مْعَنزَق عليها ضَباب " و " راعي بِكي وْمِنجَيرتو مِتلو بِكيِت تا يِتْسَلّى "، إلاّ لكي نعرف مَبلغ ما وصل إليه طراد في شَقْعِه الجَمال.
العَيش في عرف ميشال طراد وجهُ طبيعةٍ أَصبَحُ وقصيدةٌ أنيقة، ولولاهما كان العبء عليه ثقيلاً. لكنّ قريحته المتوقِّدة أمدَّته بلوحات كان يلوَّنها كلّ يوم بِلَون جديد، ويتفنَّن في النَّفخ من روحه فيها لِتُصَوِّر محاسن الوجود. والشِّعر كالمرآة، تنعكس فوق صفحتها دنيوات النّفس، فلا تُقرأُ أبداً بالعيون. من هنا، لم يمارس طراد في شعره خياطة جلود الثَّعالب، بل فَضّ الصَّدَف، ولذلك عاش من فَيض قلمه، فَبَعُد صيته فيه. وكان ذا نفسٍ حُرّة تأنف الضَّيمَ مركباً، فالكريم وإن ناله جوع، يُبدي الى الناس شَبَعاً. والشَّبع في الشّعر يعني نقاوة الموهبة في بساطتها لا مواسم المُصطَلحات في تعقيداتها، من هنا، ما كان " تَفَتُّحُ النَوّار وعِقدةُ الزنّار والشّوق الى الدّار"، يوماً، إلاّ مَنجاةً من دخول النّار.
عندما حلَّ ميشال طراد في بُقاع الشِّعر، حلَّ الربيع بتلك البُقاع، فداعَبه بالمعاني بما حَضَر. وقامت له عِشرة مع الشِّعر يكاد ماؤها يَقطُر، لأنّه في شعره مُتَسَربِلٌ ببديع الجَمال الذي كان للطبيعة في نَسجه أكثر من يَد. وقد استرزقَ من رومنطيقيّته جوهر حركتها، فكان حَيّ الإحساس، دقيق الذَّوق، ما خرج عن فطرته، وقد تَيَّمَه الشِّعر وأسره الجَمال، فأتت قصائده في سلاسة ألفاظها ورقّة معانيها دَمِثَةً، فدماثة الكلام بِقَدر دماثة الخُلق والعواطف. وقد يكون لهذا الإتّجاه الرومنطيقي الرّاقي في السّلوك وتقديس العواطف دَخلٌ في أَعمار قصائد طراد، فهي عَمَّرت طويلاً لأنها وافقت أهل النَّباهة والوجدان، فيما هُجِر غيرُها ومات لأنه تَعرّى من صيانة الصِّدق.
الشِّعر بالعاميّة أو باللغة المَحكيّة، وإن لم يكن أَغزرَ بحراً وأَحكمَ نحتاً من نَدِّه بالفصحى، هو أَلصقُ اختلاطاً بأجزاء النَّفس. من هنا، فقد قَرُبَت معانيه وسَهُل حفظه وأَسرعَ علوقه بالقلب ولُصوقه بذاكرة الشّعوب. وطراد في شعره المَحكيّ مُستَرسِلٌ للطّبع، رافضٌ للتَعَمُّل والتكلُّف، لا يغالب قريحته، ولا يستقي إلاّ من قلبه. وقد ضمَّه الى الشِّعر العاميّ مجلسٌ لم يشبع من الإطراق الى غروس التَّصاوير في قصائده، والمَنيع انقيادُها الى غيره. واللغة المحكية هي صوت الفطرة الجَذّاب وعودة الى الجذور، الى البراءة الأولى حيث لا أطواق "تُعَركِج" اللسان، ولا أَلغاز "تُشَوشِر" الفَهم، وكأنّها حركة تحريريّة من نِحَل القواعد ومذاهب القول. فهل هناك أَبسَطُ من "وبْساط حَتّ وباخ"، للتعبير عن حال الهَلهَلة، و"سْمِعِت خَشِّة، ليك كيف قَلبو هَرَب" لتصوير وَقع الخوف في النَّفس؟
المرأة في شعر طراد، آناً تسقي حبر قصائده بالدّمع، وآناً بالرِّيق. وهو في المقابل، لم يَخشَ على عواطفه منها، فما رُوِي من ماء الوَصل، وما زاده ذلك إلاّ ظَمَأً، وما وجدَ نفسه إلاّ مُستزيداً. فالمرأة التي سرى معها في ضوء، عطرُها لم يكن "دَبلاناً " طالما هي في قلبه، ولم يَذبل قلبه إلاّ حين وَدَّعته الى غير رجوع، واعترف بقوله:" وِدَّعت قلبي يوم قلبي وَدَّعِك". وكيف لا تكون الصَّدارة في لسانه- واللسانُ امتدادٌ للقلب- للحبيبة " جلنار " التي يتقدّم إسمها على اسم الربّ، وبشكل تلقائيّ لاواعٍ، فيقول في ذلك: "بْيِشرُد على تِمّي إِسما قبل إسمَك". وهنا، يُخَيَّل للبعض أنّ "جلنار" إمرأة فَوإِنسانية، تأتي ما لا يستطيعه أيُّ بَشَر. لا، ليس الأمر على هذه الشاكلة، فَ "جلنار" امرأة من لحم ودم وكيان جَسَدانيّ، اختطفها ميشال طراد من طبيعة الناس عاديةً بسيطة، وردّها إلى طبيعة الكَون مُتَّحدةً بروحه في ما يُشبه الحُلول. من هنا، تَجاوزَ طراد الإحساس بالواقع فلم يكن مع الحبيبة نَحّاتاً بقدر ما كان شاعراً، فهو لم يُرِد أن تكون المرأة تمثالاً بل مِثالاً رؤيَويّاً للكمال، رسم هو ملامحه وسَكّن في عوالمه قصائدَه.
الشِّعر الغنائي أو تزيين الكلمة باللّحن، لم يَستَدِر مع ميشال طراد الى الإبتذال والمُجون، وبالتالي لم تتكاثف فيه العيوب. فقد بقي إطاراً مُبَسَّطاً محافِظاً على بَريق صُوَره، وحُسن طَرزه، واختلاط أوزانه، ونَسج قوافيه، لذلك وَقَّعت له القيمة براءة وأنشدَه وديع الصافي وفيروز. وقد قيل، بعد الإفتنان بالسَّماع، إنّ من الأشياء أشياءً تُحيط بها المعرفة ولا تُؤَدّيها الصِّفة. من هنا، لم يكن الشّعر المُغَنّى مع طراد نظاماً أو مجموعة من التَّناسقات التي هي بمنزلة الزَّخرفة لِفَنّ التَّصوير، لكنّه تُحفةٌ متكاملة، تتأبّط فيها الميلوديا الصَدّاحة إنسيابية الكلمة بعذوبتها، وكأنّ الكلمات هي التي كُتِبَت في المُدَرَّج الموسيقي وليس النَّغمات.
لقد قيل إنّ في ميدان الكلام مُتَّسَعاً للجميع، لكنّ ما انتقل منه الى ميدان البقاء قليل وهو الذي أبى الإنقياد لكثير من الناس، والذي فرضت ضرورات الذَّوق حياته على اختلاف الأزمان. من هنا، فالإندثار لم يقترب من شعر ميشال طراد، ليس لأنّ الشاعر نشَّأ قصائده في جوّ فنّي مُمَنهَج، بل لأنّه أَصَّل موضوعاته في المشاعر الإنسانية وتقلُّباتها بين أَلم وأَمل، وحزن وفرح، ودمعة وابتسامة، فعانقت حرارة أحاسيسه أحاسيس قرّائه ليتردَّد صدى التفجُّر العاطفي في نبضات القلوب. والذي لا يقرأ ميشال طراد ويُخبر عن ألوان تأثّراته، يَصحّ فيه ما قاله "ياقوت" نقلاً عن أهل الكوفة: "مَن لم يَروِ أبيات "الجرجاني" في التعفّف عن الخمرة، فإنّه ناقص المروءة".