ستافرو جبرا بقلم الدكتور جورج شبلي
إنّ بلاغة الرَّسم، أيِّ رسم، ليست في صلاحيّته لأن يُلقى الى جميع الناس في جميع الأحوال، وإنّما في البلوغ بصاحبه الى الغَرض الذي يرمي إليه عند العَرض، فلا يكون بينهما حجاب. وهذا ما يكشف السرّ الذي يحرّك العيون والعقول باتّجاه الريشة، فتبذل لها ما عندها.
ستافرو جبرا السريع البديهة في التفاعل مع الأحداث، يحتاج فعلاً الى تحديدٍ لا يأتيه إلاّ مَن كان الأَثقب نباهةً والأَصوب تقويماً والأَوسع معرفة. لأنه يَعسر إيجاد المباضع التي يمكنها أن تُشرّح في رسومه مواضع الإبداع لإدراك أسراره، فمَن لا يتوفّر له قسط في إتقان التمييز بين الدُّر والصّباغ، يأتي تعريفه لوناً من العَبَث. وأن تقف في مواجهة لوحة من لوحات ستافرو جبرا، يعني أن تعبر من مقام الرؤية الى مقام الرؤيا. وفي هذا المجال، لسنا نعمل على تسليم الفلسفة مهمة شرح لوحات ستافرو، فهذا جهدٌ منكور، لكننا نُحيل قارئ اللوحة الى شبّاك التَّضمين ليطلّ على المرمى المَكنوز في الشّكل واللون.
الكاريكاتور هو الوجه الآخر للريشة، تعابيره لا تنمّ عن مَطالع شَفقَة، بقدر ما ترفع البراقع عن التشوّهات، ومَطارفُه لا تذكّر بسحرٍ وسيم أو ارتياح مُقيم، بقدر ما تترك آثاراً تنضح عنها بلايا يستحي منها القُبح. من هنا، فالكاريكاتوريست الذي ينقل، في زمان ومكان مُحَدَّدَين، الأشخاصَ والأحداثَ الى الصّورة وإن بأشكال مُحَرَّفة، يبلغ في فنّه مصاف المؤرّخ، لذلك تسري عليه شروط إبن خلدون في مقدّمته بعد أن فنَّد مغالط المؤرخين، من التزام بالمصّداقية والموضوعية والحيادية وعدم التزلّف والتّرويج للباطل. وإذا أسقطنا هذه الشرائط على ثنايا ما " لذَّعته " ريشة ستافرو جبرا، لوقعنا على شُغلةٍ فيها من الصّدق كلّ شمائله، حتى يُظَنّ أنّ إبن خلدون مرّ عبر الريشة.
إنّ فنّ الكاريكاتور في لبنان، وَجَب لصاحبه الثّواب، لأنه في غالب الأحايين ينطق بالصّواب على حدّ الريشة. وإذا كان ستافرو جبرا عمد الى التَّضخيم والعَبَث، وفي بعض الأوقات الى التَّشويه، فهذا لا يعني بتاتاً قدحاً وذمّاً لطالما سيق بسببهما هو وسواه الى القضاء. لكنّه أراد من خلال هذين التضخيم والعَبَث، أن يستدرج الناس الذين تأكلهم الهموم، ويصطرع في نفوسهم الشك واليقين، الى نَبذ الفهم الأَعور للوقائع وصولاً الى بَريق الحقيقة، ولو القاسية. من هنا، استطاع ستافرو الفنّان الذي استجابت له الريشة، أن يعبر في رسوماته وحواراته الضاحكة، من ضفّة الرسّام البحت الى ضفّة النّاقد بوَجهيه السياسي والإجتماعي. ويمكن القول من دون مبالغة، إنّ الكاريكاتور النَّقدي مع ستافرو، استطاع أن يختزل خطابات ومقالات وندوات بِشحطة ريشة.
أما المَسخ في الكاريكاتور، أو التصوير بأشكال تشويهية تهكّمية، فيهدف الى النَّقد اللّاذع بتقنيّات مميَّزة تنمّ عن قريحة متوقّدة. وقد استخدم ستافرو هذه الإختلاقات بنجاح، لأنها أدّت ما أراد هو أن تؤدّيه، من إيقاظ أذهان الناس على واقع بائس، ومن تحفيزهم على المشاركة في تغييره بأفضل منه. فالسخرية لم تكن الهدف الأول في كاريكاتوريات ستافرو، وإن دَرَّت الضَّحك والإعجاب دائماً، بقدر ما كانت موقفاً حرّاً ثابتاً تَكرَّر في كلّ ما رسم. وهذا يعني أنّ ستافرو كان رَجلاً ملتَزِماً بقضية، دافع عنها بدون مواربة، وعيَّشها في خطوطه حتى التَّحريض.
إنّ شَرَّ الرسّامين مَن يمرّون على مُتلَقّيهم فلا يكون لهم مادِح أو قادِح، أو حامِد أو ذامّ، وستافرو لم يكن كالمُغَنّي الوَسَط الذي لا يُحسِن فيُطرِب ولا يُسيء فيُنتَقَد. وبالرّغم من تَحامُل بعض مُعاصريه الذين أَسهروا عيونهم بحثاً عن هِناتٍ يلصقونها به فما اهتَدَوا، لم يصرخ ستافرو من عدوان لِئام أهل زمانه لأنّ السّخاء في تقديره جاوزَ إقليميّته الى العالمية. وما الإعجاب الذي ناله والجوائز التي حصدها في أكثر من مكان، إلاّ الدّليل على أنّ الرَّجل لم يكن عوداً ذابِلاً.
بالإضافة الى البنية الإجتماعية والسياسية للفنّ الكاريكاتوري، فقد كان له أيضاً وجهة ثقافية عالية المستوى، برزت مع ستافرو من خلال المضامين والدلالات. فقد انتقل الكاريكاتور معه الى أن يصبح حركة فاعلة، وصفها البعض بالثورية، وذلك لإحداث نقلة نوعية باتجاه غَدٍ واعد ومجتمع ناضج. والثقافة في الرسم الكاريكاتوري، بالإضافة الى كَون هذا النَوع من الفنون عِلماً ذا تقنيّات خاصة به ويقتضي مهارة إستثنائية، تبدو في قدرة الرسّام على تضمين الرَّسم فكرة يستطيع المُتلقّي أن يقتنصها. ويدخل التعبير هنا في حيثيّتَين ثقافيّتَين هما الإبداع والرمز، والَّلذان يتداخلان في كثير من الأحيان،
وهذا يعني الثقافة التي تتأسّس على الفطرة، والتي تتجدّد باستمرار بإغنائها من خلال امتلاك المعارف المتقدِّمة وإسقاطها على الموهبة السخيّة. من هنا، يمكن اعتبار ستافرو جبرا رائداً من روّاد النهضة في الفنّ الكاريكاتوري، فهو يعبر الجسر من التقليد الذي أدمن عليه كاريكاتوريّو العالم العربي، ليقعد بين يدَي الحداثة التي ما أخْلَت سبيله حتى قَضى، مُجَدِّدَةً له البَيعة.
لم يدخل ستافرو أبواب القصور ليفقد منديلُ كرامته رائحته الطيّبة، فيتلمَّس سِواراً يحيط بريشته والرَّقبة. لذا، لم يكن له أن يستأذن حَسِني الجَزاء في رَسم التَّراجم عن الأحداث، والتَّراجمُ جوابٌ على رسالة النّاس في الشّكوى من واقع لا عنوان له إلاّ المُعضلات. لقد نَبَضَ في عرق ستافرو هوى جحيم المصداقية من دون الصَّبوة الى فردوس التزلّف، فما انتهى مرّةً الى الإعتذار.
قال " إبن شهيد " إنّه كان للخطباء والشعراء شياطين في وادي الجنّ. أوليس ممكناً أن يكون لستافرو الرسّام شيطان مُلهِم هناك، أو أنّ ستافرو ناوشَ الشياطين وانتصر عليهم، فحوّل بِفَنّه وادي الجنّ الى وادي الإِنس؟